كتب

صرخة ‘حذاء إسباني’ ضدّ الوحل في رواية محمّد عيسى المؤدّب

هادية الجنّادي

العمل الأدبي يرسم صورة لتاريخ خطّ بطريقة إبداعيّة أدبيّة أشبه بشعرية التّاريخ أو أدبيّة الواقع الغابر ويعيد ترميم علاقتنا بالدّين والجسد والذّات والآخر.

 

تقوم الأحداث في رواية “حذاء إسباني” لمحمد عيسى المؤدب (مسكيلياني للنشر، تونس 2020) على حكايتين مترافقتين كما ترافق فردة الحذاء اليمنى شقيقتها اليسرى في خطوات لا تتقدّم إلاّ بفردتين، فيكون سرد الحكايتين تتابعا للأحداث بخطوات حذاء السّارد – عيب أن يكون السّارد حافيا – في حين من يمشي في الطّريق ويخطو مع الحدث إنّما هو البطل.

أحداث الرّواية تنطلق في زمن الحاضر، وتحديدا في الخامس والعشرين من شهر يناير/كانون الثاني 2015، ذكرى وفاة مارسيلا زوجة سي أنور، لترتدّ  بالرّاوي إلى الماضي، فيستعيد بعض اللّحظات من مرض الزّوجة وعاداتها ولحظة توقّف خطى النّبض في جسدها، لتكون طقوس الذّكرى حاضنة قادحة برسالة إلكترونيّة ترد إلى الرّاوي من الصّحفيّة صوفيا، تطلب فيها المساعدة من أنور في إعداد بحث حول الضّباط الجمهوريّين الإسبان الّذين هربوا إلى بنزرت يوم 7 مارس/اذار 1937 والبحث تحديدا في مسيرة الضّابط في مشاة البحريّة الإسبانيّة مانويل ﭭــريــﭭــري.

هذه الرّسالة أوقدت شرارة السّرد وأعطت إشارة انطلاق سباق الحكي على مضمار الرّواية، فهيّجت تاريخا يطفو إلى سطح الحاضر، وأثارت في الرّاوي هواجس حضاريّة وفكريّة عديدة، لتنطلق رحلة البحث في حياة مانويل ﭭــريــﭭــري البطل الّذي يرفض الظّهور في صورة البطل، وهو الّذي يقول: “من قتلهم فرانكو أو انتحروا قهرا هم الأبطال” ص22.

تتتالى الأحداث، فنتتبّع مسيرة البطل والسّارد في آن.  ذلك أن الحكاية في الرّواية حكايتان تتبعثران على ألسنة عدّة.  فمع اكتشافنا لمسيرة الضّابط، نتعرّف إلى سي أنور، أستاذ العربيّة، وقد التحق للتّدريس بالمعهد الّذي عُيّن فيه بمدينة قليبية لينزل مقيما في فندق فلوريدا لصاحبه مانويل ﭭــريــﭭــري، البطل الرّئيسي في الرّواية، وذلك سنة 1983، لتنشأ الصّداقة بين الرّجلين وتلتقي خطواتهما على دربٍ واحدٍ أحيانا.

الحكاية إذن حكايتان ومسارهما إنّما هو خطّان متوازيان، إلاّ أنّهما كسرا نظريّات الهندسة وخرقا قوانين الرّياضيّات لا ليلتقيا تقاطعا أو تعامدا، بل ليوشكا على التّطابق تماما أو الالتحام في مسيرة تداخل فيها الماضي والحاضر وتشابكت الأزمنة.

تضجّ الرّواية بحشد هائل من الشّخصيّات حتّى لنعجز عن تتبّعها إلاّ أنّها جميعا تسير في ذات الدّرب لتصلنا بالشّخصيّة الرّئيسيّة الضّابط مانويل ﭭــريــﭭــري الّذي نتعرّف إليه في مراحل عدّة من حياته بل من ولادته وطفولته إلى موته، فنلمحه طفلا يرتدّ إلى زمن الصّبا ويستعيد أيّام الأنفلونزا الإسبانيّة أيّام الموت المرعبة سنة 1918 وهو في الثّامنة من عمره ونراه المراهق في سنّ الرّابعة عشرة من عمره وهو الهارب مع صديقيه من الانفجارات والمطاردة، هذه الشّخصيّة ترسم ملامحها عبر الأحداث والسّرد المتردّد بين الماضي والحاضر والأهم في حياة هذا الضّابط هروبه إلى شمال تونس ومسيرته في وطن اللّجوء، هذه الشّخصيّة المركّبة الّتي عاشت محطّات هامّة من حياتها وتداولت عليها مهن كثيرة بدءًا من التّدرّب على صنع الأحذية الجلديّة، يقول: “كان الحذاء أوّل سبيل للنّسيان والتّجاوز ولكنّه كان يسمع في كلّ حذاء يتدرّب على صنعه أنين الماعز المذبوح”، مانويل الضّابط، قد تكون المهنة مؤشّرا على حذاء عسكريّ يدوس فإذا بنا نكتشفه مداسا أيضا من قبل الحرب الأهليّة وضحيّة للصّراعات السّياسيّة والإيديولوجيّة، هذه الشّخصيّة الّتي تكسر المفهوم النّمطي للعسكر لتكون الشّخصيّة الفنّانة والأدبيّة والمتذوّقة للجمال والفنون، مانويل اللاّجئ الّذي يأبى النّسيان والذّوبان رغم التّصالح مع المكان، الرّجل الإسباني العاشق المسكون بفلوريدا الحبيبة، البحّار المنفيّ والمتردّد بين الموانئ والقوارب. يقول: “لكي يكون المرء ضابطا حقيقيّا لا بد أن يفهم عالم البحّارة” ص81.

هذه الشّخصيّات بعضها مسلم وبعضها مسيحي، تونسيّة وإسبانيّة وإيطاليّة وفرنسيّة وغيرها، تتعايش جميعا وتجمعها صداقات واِبتسامات ودموع ونتساءل إزاء كلّ ذلك، من أين جاءنا اليوم كلّ هذا الحقد؟ أمّا أنور فكان راويا وشخصيّة، كان وعاءً حمله الكاتب مسؤوليّة ثقيلة ترمز إلى الجمع بين حضارتين وتاريخين فهو يفتح الرّواية وبه تنغلق مع الصحفيّة صوفيا الّتي نتعرّف إليها في البداية باحثة في حياة الضبّاط الإسبان الهاربين إلى تونس لنتفاجأ بها في آخر الرّواية حفيدة فلوريدا وصاحبة أمانة وتركة عاطفيّة للجدّة.

الشخصيّات في الرّواية إذن مشحونة بمشروع حضاري وفكريّ يتمحور حول الإنسان وعلاقته بالمكان، لا في بعده القصصي التأطيري ،وإنّما في بعده التّاريخي والحضاريّ والرّمزي، هويّة ووجودا واِنتماءً.

وكما تصاحب فردة الحذاء الأخرى وبدونهما لا اعتدال في الخطو، فإنّ الخطوات تتجاور في الرّواية بــﭑعتبارها انبعاثا لجملة من الثّنائيّات الضّديدة بــامتياز، هي رواية الأضداد في انسجاميّة تناقضها ،تسيطر عليها ثنائيّة مركزيّة تشطر البطل والأحداث والزّمان، ثنائيّة الماضي والحاضر. ماضٍ يأبى المرور والنّسيان وحاضر يبحث عن موطئ قدم في الوجود والتّاريخ. إنّها رواية الحرب والبحر، حرب الذّات وحرب الوطن وحرب الإنسان، وبحر الحريّة والامتداد.  رواية الحسّ الملتهب والرّوح المتعالية بين الهروب واللّجوء، رواية النّواح والبوح، رواية القلب النّابض عشقا والجسد المنتشي لذّة، رواية التّعصّب الأعمى، رواية التّسامح، رواية العرب والغرب والانتصار والهزيمة، الخيبة والنّخوة، رواية الشّراع والمرساة، شراع تدفعه رياح السّرد فيوغل بنا في أغوار الماضي، ومرساة ترسو بنا على شواطئ الأحداث والموانئ المفتوحة للسّفن والقوارب، كتلك الّتي هرّبت مانويل يوما.

إنّها رواية الذّاكرة والتّاريخ الحاضر في أذهان العرب، ورواية الرّاهن الجاثم على الصّدور، رواية ارتبطت بالموت والحياة:  حياة أبطال لا يموتون بمسيرتهم ونضالهم في سبيل قيم العدل والحرّية والنّور، وموت ارتبط بمقبرة جماعيّة يرقد فيها كلّ من فقد البطل والإنسانيّة ملحودا في كيانه.

إنّها رواية الأحذية بدلالاتها، أنيقة كانت أو مغبرّة ساحقة أو مسحوقة، رواية الحنين والأنين، رواية الانتماء إزاء الاغتراب، رواية الذّات واجهة للآخر والمجموعة والتّاريخ، رواية الصّوت والصّدى، صوت الرّاوي والبطل في مسيرة حياة، وصدى التّاريخ والماضي يرتدّ إلى واجهة الرّاهن.  إنّها بــاختصار رواية الحذاء والحفي، حذاء يتقدّم أحيانا على أرضيّة موحلة، أو يمشي على حمم بركانيّة ملتهبة أو رمال صحراويّة متحرّكة لا أحد يعلم متى تبتلعه.. حذاء عربيّ لا يدري بعد أين تقوده الخطوات، وإن كان فعلا يمشي أم أنّه كسيح معطوب أو دامي القدمين ولا حذاء.  كلّ هذه الثّنائيّات كانت قالبا احتضن جملة من القضايا في الرّواية.

من الطّبيعيّ أن تسيطر قضيّة الحرب على الرّواية اعتبارا للزّمن التّاريخي العام للأحداث، وذلك من خلال مانويل الّذي عانى من حذاء فرانكو. يقول: “الأحذية الغليظة لم تكفّ عن مطاردتي، كانت ضرباتها تصل إليّ مثل طرقات المطارق”. هذه الحرب الأهليّة كانت سببا في الفرار والتّهجير والنّفي وأفرزت صراعات إيديولوجيّة وفكريّة وسياسيّة كانت سببا للحرب ونتيجة لها في آن، صراعات بين الجمهوريين والقوميّين. إلاّ أنّ هذه القضيّة الرّئيسيّة كانت محملا لطرح زخم من القضايا لعلّ أبرزها القضيّة الحضاريّة والصّراع بين العرب والغرب ودور الحرب في تجميع البشر أو تشتيتهم وتفرقتهم.  فالرّواية لمست مشغلا مؤرقا وهو قيمة التّسامح بين الأجناس والأديان من خلال هذه الحشود من الشّخصيّات المتباينة انتماءً وعرقا ولغة ودينا، فقليبية فيها “أناس من إيطاليا وإسبانيا وفرنسا” يعيشون في سلام. هي مدينة يعلو فيها صوت المآذن تناغما مع أجراس الكنائس، تشمخ هنا كاتدرائيّة وتعلو صومعة في تجاور وألفة. يقول الكاتب عن مانويل: “صحيح أنّه مسيحي لكنّنا نعـتبره ابن بلد”، وأمّا الرّب فهو في قلوبنا جميعا، والمقبرة المسيحيّة تجاور المقبرة اليهوديّة في بلد مسلم ليتجاور الموت دون تمييز بين الأعراق فنحن كما يقول: “شعب مسالم ولم نتعوّد على العنف” وكأنّ الكاتب محمد عيسى المؤدّب كان وفيّا لاسم يحمله فجاور بين محمّد والإسلام وعيسى والمسيحيّة، معا لتأديب الإنسان ودفعه نحو التّسامح وجعل الهويّة مجالا للاختلاف والإثراء والتّنوّع لا للرّفض والإقصاء والسّحق.

إلى جانب هذه القضايا التّاريخيّة والحضاريّة أصرّ الكاتب على طرح مشاغل المجتمع العربي عموما والتّونسيّ خصوصا بعد الثّورة فسرّب بطريقة فنيّة سلسة جملة من الأبعاد النّقديّة لمظاهر موبوءة نخرت تونس كقضية الهجرة غير الشّرعيّة ومشكلة النّظام السّياسيّ والوضع الاقتصاديّ. يقول: “الوضع الاقتصادي حرج جدّا والسّياحة في أزمة” . ومن خلال الحرب الأهليّة وفرانكو عمد الكاتب إلى الإشارة إلى أكثر من نسخة غير أصليّة لفرانكوات آخرين معاصرين يحكموننا ويتكاثرون كالفقّاع ويصرّون على وأد أحلامنا وبتر أرجلنا ولا يكتفون بنزع أحذيتنا، بل يصرّون على إقحامنا في الوحل وتلويثنا بطين صفاقتهم. إنّهم يصرّون على جعلنا حفاة عراةً ولا نظام. وعندما تتساءل الصّحفيّة صوفيا عن إهمال الدّولة للقبور يجيبها أنور قائلا: “إنّ النّظام غير قادر على تنظيف شوارع الأحياء ولا هو قادر على إسعادهم فكيف يفكّر بالموتى؟” ليصرخ مضيفا: “كلّنا موتى، النّظام وحده لا يموت إنّه بسبع أرواحٍ” ص63.

كما تعالج الرّواية قضيّة الحريّة وهاجس الانعتاق الّذي يسكن الإنسان ضدّ أنظمة القمع والاستبداد والمحق، هذا الإنسان الّذي يعيش الاغتراب وتوأد حريّته في وطنه ليجبر على اختيار المنفى والانبتات في أوطان قصيّة، يقول مانويل: “وكأنّ قدرنا نحن البائسين أن نهرب من أوطاننا لنحيا، فأيّ قيمة لحياتنا إن لم نكن أحرارا، أيّ فائدة نجنيها إن كنّا عبيدا للقتلة، وإن كنّا لا نصلح إلا حطبا لأنظمة الخراب والموت؟”ص192.

هذه القضايا المتعدّدة المسرّبة إلى الرّواية بشكل انسيابي جميل تؤكّد أنّ الكاتب محمّد عيسى المؤدّب أبى إلاّ أن يكون قلما ملتزما بقضايا الحاضر والتّاريخ يبقى قالبا حاضنا لمآسينا ومصائبنا، لذلك كان الرّبط عميقا بين الرّاهن والماضي بالخوض في مشاغل العرب، يقول أنور: “المصالحة عند الشّعوب المتحضّرة لا تتمّ إلاّ عبر الحفر في التّاريخ المنسيّ ومعرفة ما وقع بدقة، أما نحن العرب فإنّنا نهدر الدّماء وبعد ذلك نتقزّز من النّظر إليها نحن نخشى النّبش في تاريخنا الدّامي حاضرنا حيرة ومستقبلنا مبني على الهواء ولذلك نحن لا نتقدّم بل نسير في خطّ دائريّ” ص21.

الرّواية إذن حكاية تاريخيّة لحرب أهليّة إسبانيّة لفظت الضّابط على موانئ تونس، وشطّ بنزرت، إلاّ أنّها أدب تلفّظ إبداعا بقضايا حارقة أرّقت الكاتب وأرّقت الإنسان عموما. وما الأدب إلاّ سبيلنا للتّعبير عن مشاغلنا في زمن الدّهشة والاستغباء السّافر. وما الفنون والإبداع إلاّ درعنا السّريّ الأخير في مواجهة بشاعة الواقع.

إنّها رواية استثنائيّة، اِحتضنت التّاريخ وانفتحت على الرّاهن، وكانت صرخة تدعو إلى بناء علاقات جديدة بين الأنا والآخر، ودعوة إلى إعادة النّظر في دهاليز الأعماق والكهوف المنسيّة، فالتّاريخ العربيّ هزائم ومجازر وانهزامات تتتالى ولا عبرة ولا درس لذلك. كانت الرّواية صرخة حذاء ضدّ الوحل، فلم نر فيها تاريخا جافا جامدا محنّطا كما مكوّنات المتاحف، إنّما صورة لتاريخ خطّ بطريقة إبداعيّة أدبيّة حتّى أكاد أقول إنّه قارب ما أسميته شعرية التّاريخ أو أدبيّة الواقع الغابر. الرّواية فعلا تعيد ترميم علاقتنا بالدّين والجسد والذّات والآخر وإن كانت تنطلق بمتحف صغير يجمع أشلاء أشياء وتركة لأصحابها فعلينا كعرب أن نتعلّم أنّ تركة التّاريخ عبرة تفيدنا أكثر من جثث أصحابها وتوابيتهم.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى