أليس من حق المقاومة أن تتساءل، وأن نتساءل معها: لمصلحة مَن يجري العمل على “تفتيت” ورقة الأسرى والمحتجزين لديها، وهي كما يعلم القاصي قبل الداني، واحدة من أهم أوراقها التفاوضية؟
انتهت في القاهرة والدوحة، أحدث جولات التفاوض وآخرها حول التهدئة ووقف النار في غزة، من دون أن تصل إلى النتائج المرجوّة، أقله من قبل الجانب الفلسطيني، لتتضح الطبيعة “الاستكشافية” لهذه الجولة، بوصفها محاولة لـ”جس نبض” المقاومة الفلسطينية، بعد سلسلة الضربات التي أودت بكوكبة من قادتها السياسيين والميدانيين، ومعرفة ما إذا كانت حماس قد نجحت في ملء “فراغات” القيادة والسيطرة، وهل ما زالت ثابتةً على مواقفها أم أ نها باتت أكثر جاهزية للتخلي عنها؟
في توقيت الجولة، كان لافتاً تزامنها مع تطورين هامين: الأول؛ شمالاً، في لبنان، حيث تتكثف محاولات “فصل الساحات” بدل وحدتها وترابطها، والهدف تسهيل هبوط حزب الله عن شجرة الإسناد والترابط، بزعم أن غزة أنجزت تهدئتها…والثاني؛ الاستحقاق الانتخابي الأميركي وحاجة “بايدن/هاريس” إلى تسجيل نجاح، أي نجاح وبأي حدود، لتبييض صفحة بايدن وإرثه الملطخين بدماء الأبرياء في فلسطين ولبنان، وتدعيم فرص هاريس مع جمهرة الناخبين الأميركيين المتعاطفين مع فلسطين.
والأرجح أن المساعي ستُستأنف، بعد الخامس من نوفمبر، وربما بزخم أعلى، وسط قناعة متزايدة، لدى معظم الأوساط، بأن الحرب استنفدت أهدافها أو تكاد، وأن استمرارها لم يعد سوى ضرب من قبيل العبث بحياة وأرواح ملايين الفلسطينيين واللبنانيين، وبدرجة أقل، الإسرائيليين أنفسهم، وفي ضوء معلومات تتحدث عن “رغبة” المرشحين المتسابقين على البيت الأول، في الوصول إليه، بعد أن تكون الحرب قد وضعت أوزارها.
خلف أبواب مغلقة ومفتوحة
على أننا لحظنا، قبل الجولة وبعدها، أن ثمة جهوداً (اقرأ ضغوطاً) حثيثة، تبذل في علنٍ وخفاء، ينصب جُلّها على المقاومة، لخفض سقف مواقفها وأهدافها، لملاقاة تعنّتين: تعنّت نتنياهو وحكومة اليمين الفاشي في ما خص أهداف الحرب وشروط وقفها…وتعنّت السلطة الفلسطينية، برفضها الاستجابة لنداءات الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني، المُطالِبة بتشكيل مرجعية عليا للشعب الفلسطيني، في إطار منظمة التحرير، أو أقلّه، الذهاب إلى حكومة توافق وطني، تدير الضفة وغزة معاً، وتضمن وحدة الأرض والشعب والقضية، وتقطع الطريق على السيناريوهات السوداء المتطايرة تحت عنوان “اليوم التالي”.
والحقيقة أننا لم نفرغ بعد، من الحديث عن “مشروع لجنة غزة الإدارية”، حتى داهمنا مقترح “هدنة اليومين”، في تقزيم غير مسبوق، لتطلعات الشعب الفلسطيني وأهداف مقاومته، بعد ثلاثة عشر شهراً من المواجهة الباسلة لحرب التطهير والإبادة، وقوافل الشهداء التي لم تتوقف للحظة واحدة، إن في صفوف الشعب أو من بين قادته الكبار، وبعد كل هذا الخراب العميم والمقيم، الذي لحق بكل شبر من أرض القطاع المجوّع والمحاصر.
المبادرتان أو المقترحان، فُصّلا من القماشة ذاتها، والقاسم المشترك بينهما هو تماهيهما مع رغبات واشنطن، التي لا يمكن لأحد أن ينظر إليها إلا بوصفها “رجع صدى” لمواقف الإسرائيليين، بيمينهم المتطرف والأكثر تطرفاً، مع أن المقترحين كليهما، تمت صياغتهما بلسان عربي “غير مبين”، وليس لهما من هدف سوى الهبوط بسقف التوقعات الفلسطينية إلى الدرك الأسفل، ووضع المقاومة الفلسطينية في “خانة اليك”، وتصويرها كما لو أنها المسؤولة عن معاناة شعبها التي تفوق كل خيال وتصور.
في حديث مطوّل، مع أحد قادة المقاومة المنخرطين في مناقشة مقترح “اللجنة الإدارية” التي أعطيت اسماً مُضلِلاً: “لجنة الإسناد المجتمعي”، صُمّمَ أساساً لتسهيل تمريرها وابتلاعها وهضمها، قال إن ذلك الاقتراح أثار فيضاً من الأسئلة والتساؤلات، من دون أن تتوفر لمن أطلقه وتبناه، أي إجابة عن أيّ منها، ومن بين هذه الأسئلة: مِمن تتشكل اللجنة، ومن سيشكلها، وما هي حدود ولايتها وصلاحيتها، وأي مرجعية تعود إليها، وما العلاقة بين تشكيلها ووقف الحرب على غزة، وهل ستعمل في ظلال الحراب الإسرائيلية أم بعد الانسحاب الشامل من القطاع، ما علاقتها بإدارة المعابر (رفح بالذات) والمساعدات والإغاثة، وما هوية “الجهاز الإداري/الحكومي” الذي ستقف على رأسه، هل هو جهاز حكومة حماس، أم جهاز يتشكل من بقايا عناصر السلطة ومتقاعديها؟، ما صلتها بالملف الأمني/الشرطي، وهل ستستند إلى ما يسمى “القوة الأمنية الإقليمية الدولية” التي يراد زجها في القطاع وعلى حدوده ومعابره؟، وكيف ستكون علاقتها بـ”قوى الأمر الواقع” في غزة، سيما أن المقاومة ما زالت تحتفظ بقدرات لا يستهين بها حتى عدوها الصهيوني؟، والأهم من كل هذا وذاك، هل عُرض المقترح على الحكومة الإسرائيلية، وهل قبل به نتنياهو أساساً، فإن لم يكن الأمر كذلك، لماذا يطلب إلى المقاومة تقديم تنازلات بالجملة، سيأخذها الجانب الإسرائيلي كمُسَلمات و”حقوق مكتسبة”، ونقطة بدء في أي جولات تفاوضية لاحقة؟
في المواقف من مقترح اللجنة الإدارية في طبعته الموسومة بـ”الإسناد المجتمعي”، انحصر همّ السلطة الفلسطينية التي أغلقت الباب بإحكام في وجه محاولات بناء “مرجعية عليا” للمنظمة، أو حتى حكومة توافق وطني، في الحصول على ضمانة بأن يصدر تشكيل اللجنة، بمرسوم رئاسي…فرحوا لقبول أصحاب المقترح بشرطهم هذا، حتى بعد علموا بأن اللجنة ستعمل بصورة مستقلة بالكامل عن حكومة رام الله، وأنها ربما تضم الآن أو بعد حين، شخصيات، لا تُكنّ –على تهافتها – ودّاً للمقاطعة ولا لساكنيها…أما المقاومة، وبرغم قلقها من المبادرة ومراميها، والذي عبّرت عنه بـ”المماطلة والتسويف” حيناً، وبطرح سيل من الأسئلة والتساؤلات أحياناً، يبدو أنها تحت ضغط “العامل الإنساني الكثيف والكئيب”، تجد نفسها مضطرة لإبقاء الباب مفتوحاً للحوار والتفاوض بشأنها، وربما القبول بها في مرحلة لاحقة، برغم التحذيرات التي وصلتها من أطراف فلسطينية عديدة مخلصة، إن لجهة الخشية من فصل الضفة عن القطاع، وتجزئة الأرض والكيان السياسي الفلسطيني، أو لجهة التحسب مما قد تُفضي إليه خطوة كهذه، على مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني برمته…وأحسب أن دخاناً أبيض، سينبعث قريباً من “مدخنة” المفاوضات الجارية في القاهرة بهذا الشأن، بين وفدي حماس وفتح.
هدنة اليومين
قبل أيام، جرى التداول بمقترح آخر، يلتقي مع الأول، في سعيه لتقزيم آمال شعب فلسطين وتطلعاته، وأعني به مقترح “هدنة اليومين”، والذي لم يأخذه، حتى بعض الوسطاء على محمل الجد، وجرى البحث في “تطويره”، ولكن على قاعدة “تجزئة” ملف المحتجزين الإسرائيليين لدى المقاومة، والذهاب إلى حلول مؤقتة، تبتعد عن هدفي وقف الحرب والانسحاب الشامل من قطاع غزة.
وأحسب أنه لأمر صادم أن يفكر أحدهم بهدنة يومين، تليها خلال عشرة أيام، جولات من التفاوض للبحث عن هدن أطول، ويتخللها التخلي عن ورقة المحتجزين بالمفرق والتدريج…إذ لم يسأل أصحاب المقترح أنفسهم على ما يبدو، ما الذي يمكن فعله في غضون يومين اثنين فقط، وما حجم المساعدات التي يمكن إدخالها إلى القطاع، وبالتحديد المناطق الأكثر عرضة للكارثة المحدقة في شماله؟…وهل هدنة اليومين كافية لاستكمال التلقيح بالجرعة الثانية من مطعوم شلل الأطفال؟…ما حاجة أهل غزة، بعد قرابة الأربعمائة يوم من حرب التطهير والإبادة، ليومين اثنين من التهدئة، وما الذي سيفوتهم لو أن هذا المقترح لم ير النور؟
ثم، ما حكاية “الرهائن الأربع” التي صمم مشروع “هدنة اليومين” من أجل الإفراج عنهم، من هم هؤلاء، هل هم الذين تنتظرهم كمالا هاريس لالتقاط الصور التذكارية المدعِمة لحملتها الانتخابية، أميركيون مزدوجو الجنسية…أم أنهم خليط من محتجزين روس وأميركيين من حملة الجنسية الإسرائيلية، كما قالت مصادر، وهل “هدنة اليومين” مصممة لخدمة الشعب الفلسطيني ورفع الظلم والمعاناة الأشد عن كاهله، أم أنها فصل في لعبة العلاقات العامة، لهذا النظام العربي أو ذاك، وخدمة لمصالح بعض الحلفاء والشركاء، وتدعيم للمكانة المعنوية المتهاوية لهذه العاصمة العربية أو تلك.
والأهم من كل هذا وذاك وتلك، لماذا يتطوع بعض العرب لإحراج المقاومة الفلسطينية، بطرح مشاريع يدركون سلفاً أنها لن تقبل بها، فتُترَك فريسة لحملات الشيطنة الأميركية والإسرائيلية التي برع نتنياهو وبلينكن في شنّها على حماس، قبل استشهاد سنوارها وبعد شهادته التراجيدية؟…أليس ذلك نوعاً من الضغوط (بالإنابة)، ظاهره فيه الرحمة وباطنه فيه العذاب؟
أليس من حق المقاومة أن تتساءل: هل نحن أمام مقترحات جديّة، أم أننا أمام محاولة “استطلاع بالدبلوماسية”، ما يسعى “جيش” الاحتلال لاستطلاعه بالنار للتعرف عمّا إذا كانت حماس ما زالت متماسكة وقادرة على أخذ زمام المبادرة، هل اهتزت وتفككت على وقع الضربات العسكرية والكارثة الإنسانية، هل سلسلة القيادة الميدانية، قادرة على الاحتفاظ بالمحتجزين والرهائن، وقادرة على إتمام صفقات تبادل، حتى وإن بالحدود الدنيا المقلّصة؟
أليس من حق المقاومة أن تتساءل، وأن نتساءل معها: لمصلحة مَن يجري العمل على “تفتيت” ورقة الأسرى والمحتجزين لديها، وهي كما يعلم القاصي قبل الداني، واحدة من أهم أوراقها التفاوضية…. لماذا يراد سحب هذه الورقة من أيدي المفاوض الفلسطيني، بالمفرق، وبأبخس الأثمان، بدل أن تكون عاملاً دافعاً لإتمام صفقة شاملة، تستدخل مطالبها بالوقف النهائي للحرب والانسحاب الشامل من غزة، والشروع في إدخال الإغاثة والإيواء، وإتمام صفقة تبادل جدية ومتوازنة، للأسرى والمعتقلين والمحتجزين، لماذا لا يجري الذهاب إلى “الرزمة الشاملة” بدل العمل بعقلية “البقّال الصغير” ونظام “المياومة”؟
والمؤسف حقاً، إنه في الوقت الذي عاود فيه إسرائيليون كبار من وزن يوآف غالانت، وزير الحرب، الحديث عن الحاجة إلى تقديم “تنازلات مؤلمة” لإنجاز صفقة شاملة بعد أن تبيّن له أن القوة وحدها لا تكفي للوصول إلى هذا الهدف، تأتينا مبادرات من هذا النوع، تطالب المقاومة، بتقديم تنازلات كارثية، في لعبة “علاقات عامة” لا ناقة لها ولا لشعبها، فيها ولا جمل.
إنها “طرق التفافية” كتلك التي خبرها جيداً أهل الضفة الغربية، لتجنب المواجهة مع عدو لا يستمع إلا لـ”صدى صوته”، ولا يستجيب إلا لغرائز الثأر والانتقام…وإعلان إفلاس للجهود التي بُذلت لإقناع سلطة رام الله، بالاستجابة لنداءات الوحدة والتوافق…الضغط على المقاومة ومحاصرتها، هو البديل الذي اهتدت إليه عواصم عربية عدة، لم تر يوماً فيها سوى تهديد كامن وقائم، ولم تنظر أبداً إلى “طوفانها”، بوصفه فرصة يمكن البناء عليها.
الميادين نت