ماذا وراء رحلة سيد قطب إلى أميركا؟ (صلاح حسن رشيد)
صلاح حسن رشيد
بعد الحرب العالمية الثانية، ألقت الولايات المتحدة الأميركية بثقلها في مصر، لتراقب الأمور فيها من كثب وتُعِدّ نفسها لوراثة الإمبراطورية البريطانية التي كانت شمسها تتجه نحو الأفول، فبدأت تهتم بالصحافة، والمثقفين، والأكاديميين، والعاملين في أجهزة الإعلام بأسلوب خفي وغير مباشر. وفي بحثه «سيد قطب وثلاث رسائل لم تنشر من قبل»، يقول الناقد الدكتور الطاهر مكي: «بعد قليلٍ من صدور كتاب «العدالة الاجتماعية»، سافر سيد قطب إلى الولايات المتحدة في بعثة علمية من خلال وزارة المعارف المصرية، للتخصص في التربية وأصول المناهج، وكان سنه إذ ذاك اثنين وأربعين عاماً. وأول ما يلفت النظر في هذه البعثة أنها جاءت فجائيةً وشخصيةً، فلم يعْلَن عنها مسبقاً ليتقدم لها منْ يرى نفسه كفئاً، وأن سيد قطب كان حينها قد تجاوز بكثير السن التي تَشترطها إدارة البعثات، وأنه نُقل عند تخصيصها له مراقباً مساعداً بمكتب الوزير… فمن الذي أوحى بالبعثة؟ أو فكر فيها؟ أو دفع سيد قطب إليها؟ وماذا كانت الغاية الحقة من ورائها بعيداً من الظاهر غير المقنع؟».
الغريب أنه لم يقف أحد عند هذه النقطة، كما أنه لم يتناولها أحد من الباحثين ممن عرضوا لحياة سيد قطب، ولم يشر هو إليها في ما كتب. ويتذكر الدكتور مكي أنه في العام 1954م كان يدرس التاريخ العام في معهد الدراسات العربية في القاهرة، وكان المؤرخ محمد شفيق غربال يدرس في المعهد، وكان سيد قطب قد شن حملةً صحافيةً في مجلة «روز اليوسف» على قادة وزارة المعارف، وأنهم كانوا يدورون عملياً في فلك الغرب، وأنهم زيفوا التاريخ، مجاملةً للعائلة المالكة، وهي إشارة صريحة إلى شفيق غربال. ولعل سيد قطب كان يخطب ود ثوار تموز (يوليو)، من خلال تطاوله على رجال الملك وحاشيته.
وأمام هجوم سيد قطب الضاري، لم يتردد غربال في أن يدافع عن نفسه في المحاضرة التي ألقاها في المعهد، فقال: «إن سيد قطب كفاءة عالية، ويرجى منه خير كثير، ولكني آسف لأنه غير وفيٍّ وناكر للجميل، فقد توسمت فيه أنا وإسماعيل القباني -المستشار الفني لوزارة المعارف- الخير والنفع، فوفرنا له بعثة غير عادية إلى الولايات المتحدة الأميركية، ليتصل بالحضارة الغربية وتقع عينه على ما في العالم الجديد، فيعمق فكره وتتسع نظرته، فلم يكمل البعثة، وها هو الآن يشتمنا».
ويطرح الدكتور الطاهر مكي أسئلة عدة حول هذه الرحلة الغريبة، منها: لماذا الولايات المتحدة بالذات، في حين أن إنكلترا أقرب لنا وأرخص في الكلفة؟! كما أن شفيق غربال والقباني درسا في لندن، والمعهود أن المرء يميل إلى البلد الذي درس فيه. ويربط الدكتور مكي الحلقات المفقودة في رحلة سيد قطب المثيرة للجدل بعضها ببعض، ليصل إلى أن ذهابه إلى الولايات المتحدة في العام 1948م، ولمدة عامين، كان: «وليد تخطيط أميركي خفي، بعيد من سيد قطب نفسه بداهة، فمن الغريب والعصبية بين أنصار كلية دار العلوم وأنصار كلية الآداب، على أشدها في تلك الأيام في وزارة المعارف، أن يعهد إسماعيل القباني بالذات لموظفٍ من دار العلوم هو سيد قطب، ببعثة وهو في مثل هذه السن الكبيرة ولا يَرِدُ على ذهن المرء أن القباني نفسه سجل تقديره لقطب رسمياً، حين قدم الأخير استقالته من عمله مراقباً بالوزارة في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 1952م، بعد الثورة مباشرةً، كما أن القباني أيضاً حاول أن يثني سيد قطب عن الاستقالة بشتى السبل، فقال في المذكرة التي تقدم بها إلى مجلس الوزراء، في 30/12/1952: «ولما كنت بالرغم من هذا، أعتقد أن في سيد قطب بعض النواحي الطيبة التي تمكن الاستفادة منها، وأن له من قوة تفكيره وكفايته ما يجعله قادراً على الإنتاج، فقد حاولت أن أثنيه عن عزمه، وأن أقنعه بالعودة إلى عمله، وكانت آخر محاولة لذلك في الأسبوع الماضي، ولكنه أصر على طلبه، وكان طوال هذه المدة ممتنعاً من العمل».
فلماذا تصر الوزارة -في محاولة تلو محاولة- على إثناء سيد قطب عن استقالته؟! وما الذي يضيفه موظف عادي للوزارة، إن لم يكن في الأمر سر لا يعرفه إلا سيد قطب نفسه والمسؤولون عن أمر البعثة؟!
فهل كان هناك تخطيط ما في الوزارة للاستفادة من سيد قطب بعد عودته من الولايات المتحدة لتنفيذ هذه السياسات الأميركية الجديدة مثلاً؟! ولماذا سيد قطب بالذات؟! ولماذا تغير فكره، فانقلب إلى النقيض بعد أن كان يدعو إلى العري في مقالاته الاجتماعية، وإلى الليبرالية في أدبه المكشوف، ويناهض الرجعية والتقليد؟!
والعجيب أن إسماعيل القباني طلب في مذكرته نفسها أن ينضاف إلى مدة خدمة سيد قطب في الوزارة عامان، حتى تتمّ المدة القانونية لمعاشه، وفي تلك الفترة، كانت العلاقات قد تأزمت بين حكومة ثورة تموز (يوليو) وبين جماعة «الإخوان المسلمين»، فقبلت الاستقالة من دون إضافة أي يوم واحد إلى مدة خدمته.
ويصل الدكتور مكي إلى نتيجةٍ مؤداها: «أن بعثة سيد قطب إلى الولايات المتحدة لم تكن خالصةً لوجه العلم، فقد اعترف سيد قطب بعد ذلك في مصر لرفيقه في النضال سيد سالم حين التقيا في السجن، أنه وقع تحت إغراء هذه الأوساط الأميركية بكل الوسائل، ولكنه لم يسقط في شباك أيٍّ منها. وفي إحدى رسائل قطب إلى زميل دراسته في دار العلوم محمد جبر، يعترف بأنه تم توفير الإمكانات المادية الكبيرة له في البعثة، مقارنة بالطالب العادي، فيقول: «فالطالب العادي يستطيع أن يعيش في حدود 180 دولاراً عيشةً راضيةً، أما أنا، فأضطر-شخصياً- إلى إنفاق ما يقرب من 250 إلى 280 دولاراً، وذلك بسبب اضطراري إلى حياة مريحة، كل الراحة، وإلى قيمة غذائية مرتفعة كذلك، وإلى شيء من المظهر في بعض الأوساط، كرجل زائر لا طالب». فمن أين أتى سيد قطب بهذه الأموال، وهو الفقير الذي لا يملك شيئاً؟ كما أن الوزارة لا تستطيع تحمل كل هذه المصاريف الباهظة لمدة عامين في واشنطن.
وربطاً بالحلقات المجهولة من حياة سيد قطب، بخاصة هذه الرحلة وما صاحبها من أسرارٍ لم تكشف حتى اليوم، يذكر محمد سيد بركة «أن بعض الأحاديث كانت تدور بين سيد قطب وبين أحد الأساتذة الإنكليز الذين التقى بهم في أميركا، وكان يدعو سيد لزيارته في بيته، ثم تبين-في ما بعد- أنه أحد رجال الاستخبارات البريطانية، وكان هذا الرجل يحذره من خطورة الإخوان المسلمين إذا قدر لها أن تسيطر على مقاليد الأمور في مصر، ويبصره بما يترتب على الشباب المثقف من أمثاله أن يقوموا به، حتى يحولوا دون سيطرة هذه الجماعة على الحكم».
انضم سيد قطب إلى «الإخوان» عام 1951م، وانتخب عضواً في مكتب الإرشاد، وعين رئيساً لقسم الدعوة في المركز العام للجماعة عام 1952م، وتولى رئاسة تحرير جريدة الإخوان المسلمين إلى أن توقفت بعد صدور 12عدداً منها.
ولما قامت ثورة 23 تموز (يوليو) 1952م في مصر، فرح بها الإخوان، ولكن سيداً كان أكثر فرحاً بها، إذ إنه ساهم في الإعداد لها، فقد كان صديقاً لبعض الضباط الذين قاموا بتلك الثورة. ويشير محمد بركة إلى أن: «سيد قطب كان المدني الوحيد الذي يحضر جلسات مجلس قيادة الحركة، وكان جميع أعضاء المجلس يترددون على منزله في حلوان»، في حين يذهب آخرون إلى أن مجلس قيادة ثورة يوليو وعد سيد قطب بإعطائه حقيبة وزارة الأوقاف، لكنه أخلف وعده لقطب، فانقلب عليهم بلا هوادة، فهل عاد سيد قطب من واشنطن بأجندةٍ خاصة لتنفيذها، لا سيما مع قيام الثورة؟!
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: لماذا سيد قطب بالذات الذي تغازله وزارة المعارف ثم يحضر اجتماعات مجلس قيادة الثورة بعد ذلك؟ وما هو الدور الذي كان موكولاً إليه القيام به؟ وما علاقته بالاستخبارات البريطانية والأميركية؟… أسئلة وعلامات تعجب ستكشف عنها الأيام، عندما تظهر الوثائق السرية حول هذا الموضوع في واشنطن ولندن.
صحيفة الحياة اللندنية