أحدهم مات محترقاً بنار سيجارته، وآخر أقام معرضاً للوحاته ثم ألقى بها في فوهة التنور لتحضير الخبز لعائلته. لماذا يواجه فنانون عرب وأعمالهم مصائر مأساوية؟
في السكّة الموازية لحوادث إحراق الكتب التي تملأ مفكّرة ضخمة من رماد الكلمات، سنجد حوادث مشابهة بما يخصّ إضرام النار في لوحات الفنانين شرقاً وغرباً، كمحصّلة لاحتجاج أصحابها على تلقي أعمالهم بما لا يليق بها نقدياً، أو بسبب مسّ من الجنون أصاب بعضهم، فيما فقد آخرون أرشيفهم بعد تعرّض مراسمهم للنهب والحرائق على أيدي التكفيريين ولصوص الحروب، بالإضافة إلى ذرائع أخرى لا تخلو من مفارقات موجعة.
كان التشكيلي السوري لؤي كيالي (1934- 1978) العائد للتو من الدراسة الأكاديمية في روما، يتجرّع مرارة فشل معرضه الأول “في سبيل القضية” الذي اشتمل على30 لوحة تُلخّص موقفه حيال المأساة الفلسطينية. إذ صُدم أولاً بآراء النقّاد العنيفة في تلقّي أعمال معرضه الذي أقيم في دمشق، قبل شهر واحد من هزيمة 1967، فأُصيب هذا التشكيلي المتفرّد بأزمة نفسية حادة، قادته إلى إتلاف جميع لوحات المعرض المرسومة بالفحم، وعاد إلى مدينته حلب ليعيش عزلة طويلة وسوداوية بلا ضفاف.
لن تتوقّف مأساة لؤي كيالي عند هذا الحدّ، بل انتهى منتحراً: حبة من دواء “فاليوم”، وسيجارة كانت مشتعلة بين أصابعه، وهو ممدّد في فراشه أدت إلى احتراقه أثناء غفوته الخاطفة، فكانت نوعاً عبثياً لنهايته المفجعة، بعد خيبات متتالية قادته أكثر من مرّة إلى المصحّة النفسية.
سيشخّص الأطباء حالته الصحية بأنه مصاب بمرض الفصام، ليُحجر بعدها في مستشفى الأمراض العقلية في حلب تحت رقابة طبية، نظراً لخطورته على محيطه، فيما سينكر جنونه في لحظات صحوه، لكن تتبع عناوين معارضه اللاحقة يشير إلى روح احتجاجية، وحساسية عالية في تفسير ما يحدث من حوله مثل “ثم ماذا؟”، و”من تحت الأنقاض”، وتالياً، فإنه لم يغادر منطقة الكآبة التي كانت تتسرب إلى تضاريس لوحاته، ترجيعاً لسلوكه المضطرب.
حينها، أنكر كثيرون جنون لؤي كيالي دفاعاً عن سمعته، لكن ممدوح عدوان سيكتب من ضفة أخرى، محتفلاً بالجنون، من دون مواربة قائلاً إن: “لؤي كيالي كان مجنوناً طوال 7 أعوام: من عام 1967 حتى عام 1973، يجب ألا نخفي هذه الحقيقة من حياته، بل يجب أن نعلن عنها ونشير إليها باعتزاز. يجب أن نقول إن لؤي كيالي من بقايا المستحاثات البشرية التي ما يزال لديها أعصاب وحساسية وكرامة. وأن هذه المميزات هي التي جعلته غير قادر على التواؤم مع عالمنا اللامعقول فجنّ وأربكنا”.
ويضيف عدوان “لقد تعكّر عالمه الداخلي واضطرب قبل جنونه.. منذ أن انتقل ذلك الانتقال الفجائي من عالم الدعة والترف والمجد إلى عالم البؤساء والقضايا الملحة وحاول أن يعيش هذا العالم ويكتشفه وينفعل به ويعبّر عنه”.
تتقاطع سيرة لؤي كيالي في منطقةٍ ما مع سيرة الرسام الهولندي فنسنت فان غوخ لجهة اللون ونوبات الجنون والتجاهل، فعاش فقيراً ومعدماً إلى درجة أنه كان يقوم بحرق لوحاته للتدفئة في فصل الشتاء، وطيلة حياته لم يتمكن من بيع إلا لوحة واحدة فقط، ما وضعه تحت تأثير عذاب الألم النفسي والجنون والاضطراب الذي قاده إلى قطع جزء من أذنه اليسرى بموسى حلاقة إثر خلاف مع زميله في السكن، بول غوغان، ثم انتحر بطلقة رصاص عام (1890) مخلّفاً أرشيفاً ضخما من الأعمال الخالدة التي بيعت بأرقام عالية في المزادات العالمية.
حريق في ساحة عامة
من قريته الطينية “تل نايف” في أقصى الشمال السوري إلى العاصمة النمساوية، رحلة طويلة من الهروب والمكابدات والعوز، خاضها عمر حمدي بقوة القلب واللون في آنٍ واحد. فخلال سنوات الدراسة في مدينة الحسكة، اضطر هذا التشكيلي السوري إلى العمل ليلاً في دار للسينما كخطاط ورسّام مناظر وعامل تنظيفات وقاطع تذاكر.
وفي الوقت نفسه، كان يخزّن في ذاكرته الفتية الجانب الحسي للأشياء، ليغرق في اللونين الأحمر والأسود دون سواهما من الألوان، ويرسم سرّاً حقول القمح ووجوه الفلاحات، مستخدماً شفرات الحلاقة بدلاً من الفرشاة.
ولطالما أخفى لوحاته في بئر المنزل، كي لا يكتشف والده هذه الهواية التي “لا تُطعم خبزاً”، وستنتهي به إلى أن يكون عتّالاً في سوق الخضار.
في العام 1968، إثر تخرّجه من “دار المعلّمين”، باع حمدي درّاجته الهوائية، وبثمنها الزهيد اتجه إلى دمشق على ظهر شاحنة رفقة لوحاته. فور وصوله إلى العاصمة السورية، استقل سيارة أجرة إلى صالة “المركز الثقافي العربي”، وقابل مدير المركز، عفيف بهنسي، الذي أُعجب بلوحاته ووصفها بأنّها “مجزرة”، ووافق على إقامة معرض لهذا الفتى الذي لم يتجاوز يومها الثامنة عشرة من عمره.
كان للمعرض حينها وقع الصدمة على الحياة التشكيلية السورية، نظراً إلى تفرّد التجربة وقوّتها الإيحائية. لكن عمر حمدي سرعان ما أحدث صدمة أخرى أشد تأثيراً. فما أن انتهى المعرض حتى جمع لوحاته، وغادر المكان إلى إحدى ساحات دمشق. هناك أضرم فيها النار، ليعود بعدها إلى مدينته القصية، ويصمت عاماً كاملاً من دون أن تمتد يده إلى الفرشاة والألوان.
أما التشكيلي الفلسطيني مصطفى الحلّاج (1938- 2002) فقد عاش حرائق متعاقبة، إذ فقد أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 مئات اللوحات تحت القصف، ثم عاش حريقاً مزدوجاً بعد أن شبت النيران في مرسمه الدمشقي، فحاول مكافحة النار واطفاءها لكنها امتدت إليه، من دون أن يتمكّن من إنقاذ الجدارية التي كان يعمل عليها وطولها نحو 114 متراً محفورة على الخشب، وتمثّل عذابات الفلسطيني وأساطيره وصراعه مع الغزاة على خلفية منجزات الحضارة الكنعانية، ثم مات مكفّناً بما أنقذه من قماش اللوحة.
كما سينال الفنان السوري، محمود شيخاني، نصيبه من الخسارة، بعد أن اقتحم مسلحون مرسمه في مدينة حمص ونهبوا محتوياته ثم أضرموا النيران في المكان، واكتفى الفنان بما يملكه من صور رقمية للوحاته كذكرى غير قابلة للنسيان، وهو ما حدث لمرسم الفنان الحلبي، سعد يكن، الذي تعرّض للنهب هو الآخر، واتلاف بعض أعماله.
وفي صنعاء التي عاشت حرباً مماثلة، أقدم الفنان، ريان الشيباني، على إحراق لوحاته بعد أن أقام معرضاً افتراضياً لأعماله فوق موقد النار لمدة يومٍ كامل، ثم ألقى بها في فوهة التنور لتحضير الخبز لعائلته.
الميادين نت