فن و ثقافة

البحث عن أولويات للعمل الثقافي العربي

سليمان عبد المنعم

ما زالت قضية ترتيب الأولويات غائبة في حياتنا. مظهر لهذا الغياب يتجلّى في العمل الثقافي العربي. ولعلّ العمل الثقافي الذي نحلم به على صعيد التكامل العربي قد يكون إطلاق مشاريع ثقافية عربية عدّة، تتوافر لها عناصر التمويل وإمكانية التنفيذ، وإرادة العمل، ووضوح الرؤية.

فقد تعلّمنا من تجارب الماضي، أن طموحاتنا الكثيرة التي يكاد سقفها يلامس السماء غالباً ما تؤول في النهاية إلى نتائج جدّ متواضعة، على الرغم ممّا هنالك من نوايا حسنة. وحينما يتأمل المرء الواقع الثقافي العربي وما يواجهه من تحديات، سرعان ما يكتشف أن هناك مشاريع ثقافية عاجلة وملحّة جديرة بأن تطرح للنقاش العام لعلّ من بينها الأولويات التالية:
الأولوية الأولى: محاكاة ما بلغه العمل الثقافي في المجتمعات المتقدّمة من تطوّر على صعيد إقامة الشراكات والتشبيك بين مختلف المؤسّسات المعنيّة بقضايا العمل الثقافي. فهذا عصر لم تعد فيه المؤسّسات الحكومية وحدها قادرة على الاضطّلاع بكلّ الأدوار والمسؤوليات. ولئن كانت أدبيات التنمية الحديثة – والثقافة في القلب منها- تعتبر أن نجاح عملية التنمية يتطلّب تكامل أضلاع مثلث الدولة والقطاع الخاص والمجتمع الأهلي، فإن أيّ استراتيجية للعمل الثقافي العربي لا بدّ أن تنطلق بدورها من إقامة شراكة بين المؤسّسات الثقافية الرسمية، ومبادرات القطاع الخاص، المعني أحياناً بالعمل الثقافي، ومنظمات المجتمع الأهلي ذات الصلة. ثمة مبادرات يمكن البناء عليها في هذا الخصوص مثل “مبادرة شركاء من أجل الكتاب العربي”، التي أطلقتها مؤسّسة الفكر العربي، التي تضمّ شراكة بين بعض المؤسّسات الثقافية العربية الرسمية والأهلية والخاصة. فهي تمثل نموذجاً يمكن تطويره والبناء عليه في واحدة من أهمّ القضايا الثقافية العربية، أي قضية صناعة الكتاب، وذلك بالإضافة إلى مبادرات شبيهة أو مختلفة لمؤسّسات عربية أخرى. غير أن المطلوب اليوم، إقامة حدّ أدنى من التنسيق بين كلّ هذه المبادرات لكي لا نبدو وكأننا نعيد اختراع العجلة ونكرّر الجهود ذاتها.
الأولوية الثانية: وهي قضية التمويل والموارد والإمكانيات التي تحتاج إلى رؤية جديدة وحلول مبتكرة. فالعمل الثقافي في التعليم والتأليف والنشر والترجمة والإبداع، مثله مثل أيّ منتج إنساني، يحتاج إلى تمويل وموارد. ولربما تبدو المخصّصات المالية للصناعات الثقافية في العالم العربي هزيلة ومحدودة إذا ما قورنت بما هو مخصّص لها في الموازنات الحكومية للدول المتقدمة. من هنا تأتي ضرورة التفكير ليس في حثّ الدول على زيادة الإنفاق على المنتج الثقافي فقط، بل في استحداث أشكال ووسائل جديدة للتمويل أيضاً. ولعلّ الاقتناع بالمسؤولية الثقافية لرأس المال يدفع كيانات القطاع الخاص للاضطّلاع بدور قومي وتنويري في هذا المجال.
الأولوية الثالثة: الوعي بأحد أهمّ التحديات التي يفرضها واقع تطوير التعليم في المجتمع العربي. وهو واقع يرزح ما بين تعليم حكومي تتراجع جودته بشكل مقلق بحكم تواضع الموارد وزيادة النسل التعليمي من جهة، وتعليم خاص تتقدّم فيه اعتبارات الربح على مقتضيات الجودة التعليميّة من جهة ثانية، ما عدا الاستثناءات بطبيعة الحال. فإذا وضعنا دول الخليج والسعودية جانباً، فإن معدل الإنفاق السنوي على الطالب في التعليم العالي لا يتجاوز في العالم العربي نحو 1300 دولار، بينما يصل في إسرائيل إلى 11000 دولار، وفي الولايات المتّحدة إلى 22000 دولار. من هنا لا يبدو في الأفق من حلّ سوى التركيز على التعليم الأهلي الذي يقوم على التبرّع والاكتتاب ولا يسعى إلى تحقيق الربح. والمفارقة أن معظم الجامعات التي توصف بالأهلية في العالم العربي هي جامعات أجنبية مع أن “الوقف” مصطلح عربيّ المصدر بالأساس! ومن المفارقة أيضاً، أن دولة مثل تركيا فيها ما يزيد على ثلاثين جامعة أهلية لا تستهدف تحقيق الربح، بينما دولة مثل مصر ليس فيها سوى بضع جامعات أهلية، مثل جامعة المستقبل الوليدة، والتي لا يزال الحكم عليها كتجربة مبكراً.
الأولوية الرابعة: توظيف حركة التأليف والنشر في العالم العربي لإطلاق مشروعٍ يُعنى بإحياء الوعي العربي بلغة تناسب مستجدات العصر وتخاطب النشء والشباب على وجه التحديد. ربما كنّا نحتاج مثلاً، إلى سلسلة كتب شهرية هدفها تنقية الوعي العربي ممّا لحق به من نزعات شوفينية قطرية استشرت في الآونة الأخيرة، وكادت تبلغ حدّ العداء الثقافي المتبادل في بعض الحالات. فما حدث بمناسبة التنافس الكروي بين مصر والجزائر على سبيل المثال، كان ظاهره مسألة كرة قدم لكن باطنه اختزن مشاعر شوفينية ساذجة بغيضة، شوّهت الوعي القومي وحيّدت العقل العربي وأربكت المشاعر الوطنية. وعلى الرغم من ثورة الاتصالات والمعلومات، ما زال العرب لا يعرفون الكثير عن بعضهم البعض باستثناء مجال الغناء فقط! وأحد الأدلة على ذلك، الفجوة القائمة بين المشرق والمغرب العربيّين، وهي فجوة يشكو منها المثقفون والمبدعون أنفسهم فما بالنا بالشرائح العريضة من الناس؟!. وفي ظلّ فتور التواصل الثقافي بين المشرق والمغرب وتصاعد تيارات الشوفينية القطرية في أكثر من مكان في العالم العربي، فإن هناك عملاً ثقافياً ما ينتظرنا في هذا المجال.
الأولوية الخامسة: دعم اللغة العربية والحفاظ عليها في ظلّ الشواهد الخطيرة والمقلقة على تراجعها وركاكة استخدامها وضعف أنظمة تعليمها ومناهجها في المدارس. فلم يعد السكوت ممكناً إزاء ما تلقاه لغتنا الأم، آخر حصون مقاومتنا الحضارية، من إهمالٍ، وربما ازدراءٍ، من جانب أبنائها الناطقين بها. وإصلاح هذا الواقع يتطّلب عملاً ثقافياً دؤوباً وجسوراً على الأصعدة التعليمية والإعلامية والبحثية، بل حتى القانونية. فعلى الصعيد التعليمي، لا بدّ من تطوير عاجل لمناهج تدريس اللغة العربية والاستفادة من تجارب التطوّر الحاصل في تدريس بعض اللغات الأجنبية. فاللغة علم لا يستعصي على التطوّر ولا يتكبّر على المحاكاة. وعلى الصعيد الإعلامي نحتاج إلى وضع مدوّنات سلوك مهني للحدّ من استخدام العاميات المحلّية العربية في وسائل الإعلام، ولاسيما في الإعلام المرئي. وعلى الصعيد البحثي والعلمي يجب تشجيع حركة تأليف المعاجم والقواميس العصرية وتحديثها الدوري الدائم لكي تظلّ مواكبة للتطور الحاصل في الفكر ووسائل الحياة؛ فالمعجم الوسيط لم يتمّ تحديثه منذ ستين عاماً! كما لا بدّ من توظيف ما تتيحه تقنيات المعلومات من إمكانات هائلة لتطوير الاستخدام الرقمي لّلغة العربية. والدراسات لا تنقصنا في هذا الخصوص. أما على الصعيد القانوني، فقد آن الأوان لاستصدار تشريعات ملزمة لحماية اللغة العربية وهي تتآكل جهاراً نهاراً في أوراقنا وواجهات المحال التجارية ولوحات الإعلانات. فكيف السبيل لمشروعٍ ثقافيّ عربيّ يتبنّى هذه المطالب وغيرها؟ فلسنا أقل غيرة على لغتنا من الفرنسيّين الذين أصدروا قانوناً لحماية لغتهم الوطنية.
الأولوية السادسة: تطوير رؤيتنا الثقافية لحركة الترجمة من وإلى اللغة العربية. فحاجتنا إلى الترجمة هي ذاتها حاجتنا الدائمة إلى المعرفة والانفتاح على العالم من حولنا. والحاصل اليوم أننا نترجم الكثير؛ وهو أمر إيجابي بحدّ ذاته، لكن ما زلنا نحتاج إلى رؤية مدروسة تهتم بمتطلبات الجودة قدر اهتمامها باعتبارات الكمّ وتنفتح أكثر على كلّ مجالات المعرفة الإنسانية. فما زالت حركة الترجمة منحازة إلى نوعٍ معيّن من نتاج الفكر الإنساني على حساب مجالات معرفية أخرى. ثم إننا لم نواجه بعد السؤال الأكثر جدوى: وماذا بعد الترجمة؟ وكيف السبيل إلى خلق الطلب المعرفي على الكتب المترجمة، ولا سيما لدى الشباب بدلاً من أطنان الكتب المترجمة المودعة في المخازن المغلقة؟ هذه وغيرها تساؤلات يمكن الانطلاق منها والبناء عليها في إطلاق مشروعٍ عربيّ نوعيّ للترجمة يعتمد على إقامة الشراكات وتنسيق الجهود بين المؤسّسات المعنيّة.
الأولوية السابعة: الاهتمام بجمع التراث العربي وتوثيقه وأرشفته، من خلال إطلاق متحفٍ عربيّ افتراضيّ على شبكة الإنترنت يضمّ تراثنا العربي المبعثر هنا وهناك. هذا مثال لمشروع ثقافي عربي قد يتطلّب تنفيذه فترة طويلة من الزمن، ومن المؤكد أنه يحتاج إلى حشد جهود مؤسّسات عربية كثيرة، لكن من الضروري أن نبدأ. فمن غير المعقول أن يمتلك العرب جميعاً هذا النصيب الوافر من التراث الإنساني ولا نجد على شبكة الإنترنت سوى هذا الحضور المتواضع الذي لا يعبّر بحال عن إسهامنا الكبير في الحضارة الإنسانية.
هذه مجرد أمثلة لمشروعات ثقافية يمكن الإضافة إليها أو تعميق بعضها؛ المهم أن نبدأ. والبداية أن نخلق حالة حوار بين المثقفين العرب لتكون لدينا أجندة جاهزة للعرض على القمة الثقافية العربية التي تبنّتها جامعة الدول العربية بشراكة بين مؤسّسة الفكر العربي والمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة(أليكسو)، وهي مبادرة تحتاج إلى تكاتف جهود الجميع وإلى أفكارهم، وتتّسع لذلك حكماً.

 

مؤسسة الفكر العربي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى