تقارير الأمن الفرنسي عن التمويل الصهيوني المُبكر للإعلام اللبناني [1/2]: الإعلام الموبوء ينطق بلسان مموّليه
بدر الحاج
مباشرة في اليوم الثاني لعملية «طوفان الأقصى»، نشط الإعلام العربي المعادي بهدف تشويه ما قام به الفلسطينيون، تماماً كما حدث في اليوم الثاني لحرب تموز عام 2006. وتصاعدت الوتيرة العدائية بالتدريج مع دخول جبهات الإسناد المعركة، لدرجة التبني الكامل للسردية الصهيونية. وإذا كان من البديهي أن يتبنّى الإعلام الغربي بأجهزته كافة المجازر التي يرتكبها الصهاينة، فإن البعض استغرب تصرفات الإعلام العربي وخاصة اللبناني.
في هذا الموضوع بالذات، أودّ الاستعانة ببعض التقارير الأمنية التي تعود إلى فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا، والتي تفضح بعض أصحاب الصحف اللبنانية وعلاقتهم المالية بالوكالة اليهودية. وكان الفرنسيون يرتابون جداً من النشاط الصهيوني في سوريا، ويعتبرون الصهاينة حينذاك مجرد أدوات عند البريطانيين.
لا بد من الإشارة إلى أن الإعلام اللبناني الحالي لا يستطيع الاستمرار من دون الدعم المادي من الدول العربية المطبعة والمتحالفة مع الصهاينة، أو من «الناتو» – سوروس. لذلك من السهولة فهم تصرفات أصحابه الذين اقتناهم المموّل، والذين يتبنّون شعار «ادفعوا وخذوا ما تريدون».
المسألة بالنسبة إلى الأكثرية الساحقة للإعلام في لبنان عبارة عن موضوع تجاري بحت، لا أخلاق ولا كرامة وطنية ولا مبادئ، بل المال فقط. يستطيع المرء أن يشبّه هذا الإعلام بصاحب دكان يعرض بضاعته للبيع، ويأتي الشاري ليدفع ثمن ما اشتراه. وبما أن الإعلام حالياً ضرورة من ضرورات المعركة، فقد تدفقت الأموال لشراء هذا القطاع.
ولنأخذ مثالاً من بعض الوقائع التاريخية، وكيف تصرفت الوكالة اليهودية في معركتها الإعلامية لاكتساب الأوساط العربية منذ بداية الاستيطان في فلسطين. وتظهر الوثائق أن الصهاينة الأوائل توصلوا إلى نتيجة مفادها أن المال هو الوسيلة الأنجع في تجييش المزيد من المنابر العربية لمصلحتهم. وهذا ما رصدته التقارير الأمنية الفرنسية.
التقارير الأمنية الفرنسية
تحفل الوثائق الديبلوماسية الفرنسية، وبصورة خاصة التقارير الأمنية منها، بمعلومات عن تقاضي أصحاب الصحف أموالاً من الوكالة اليهودية مقابل نشر أخبار أو مقالات ترسلها الوكالة إلى تلك الصحف. وتتقاطع معلومات الفرنسيين مع مذكرات قادة صهاينة، وخصوصاً مذكرات إلياهو ساسون الذي كان يتولى مسؤولية مدير القسم العربي في الوكالة اليهودية.
ونعرض أدناه نماذج مختصرة عن تلك التقارير، التي إذا قارناها بما يحدث اليوم، فسوف يتّضح أن المشهد لم يتبدل إطلاقاً، بل ازداد إسفافاً وفجوراً. أول هذه التقارير ما أبلغه مدير القنصلية الفرنسية في سوريا بتاريخ 6 آذار 1914، إلى المكلف بأعمال فرنسا في إسطنبول عن تفاصيل زيارة ممول الاستيطان البارون إدمون دو روتشيلد لبيروت. ومما جاء في تقريره: «أشادت جريدة «الرأي العام» الصادرة في بيروت باللورد روتشيلد الذي كرّم صاحبها [طه المدور] بهبة مالية، بعد أن أبدى اللورد رغبته في أن تتوقف حملة الصحيفة على الحركة الصهيونية في فلسطين».
اعتبر تقرير فرنسي عنوانه «النشاط الصهيوني في سوريا»، أعدّ بتاريخ 4 كانون الأول 1929، أن النشاطات الإعلامية الصهيونية في بيروت هي واجهة لنشاطات الحركة الصهيونية. يقول التقرير ما يأتي: «توفيق مزراحي، وهو صحافي يهودي أصله من دمشق ومعروفٌ بميوله الصهيونية، هو الذي يدير مكتب الصحافة والإعلان في شارع باب إدريس. بين العامَين 1923 و1925، كان هذا الشخص مراسلاً في دمشق لصحيفة «المقطم» التي تصدر في القاهرة. سرّحته إدارة الصحيفة في عام 1925 بسبب تقييم رسائله بأنها مناصرةٌ بحماس للصهيونية. حينذاك، أخذ مزراحي يرسل مقالاتٍ إلى الهيئات الصهيونية في فلسطين، لها النبرة عينها. جرى مكافأته وتشجيعه، وخصّصت اللجنة الصهيونية في القدس له راتباً شهرياً مقداره 25 ليرة فلسطينية.
في عام 1926، أصدر مزراحي في بيروت صحيفةً باللغة الفرنسية اسمها «Commerce du Levant» (تجارة المشرق). فضلاً عن ذلك، افتتح في شارع باب إدريس متجراً لبيع المعدات الكهربائية. وفي عام 1929، أتى إلى بيروت يهوديٌ من القدس اسمه جاكوب فرانكو Jacob Franco، وهو محررٌ سابقٌ في صحيفة «دوار حايوم» العبرية، معروفٌ بحملاته ضد سلطة الانتداب في سوريا ولبنان. وضع فرانكو نفسه تحت تصرف اللجنة الصهيونية التي أرسلته إلى بيروت لأغراضٍ قد يكون توضيحها مثيراً للاهتمام.
حالياً، يهتم فرانكو ظاهرياً بتحرير صحيفة «تجارة المشرق» بالتعاون مع مزراحي. وهذا العمل ليس سوى ذريعة، لأنّ فرانكو هو في الحقيقة عميل اللجنة الصهيونية في بيروت. ويمكن تأكيد ذلك لأنه يلعب دوراً نشيطاً في تهريب السلاح من لبنان إلى فلسطين».
ويشير تقرير فرنسي صادر عن إدارة جهاز المعلومات في الشرق بتاريخ 17 تموز 1930 ويحمل الرقم 1597، إلى معلومات عن لقاء خير الدين الأحدب صاحب جريدة «العهد الجديد»، الذي تولى عام 1937 رئاسة مجلس الوزراء، مع ممثل الوكالة اليهودية حاييم غالفارسكي.
وفي اليوم التالي يوضح تقرير آخر بعنوان «نشرة معلومات رقم 1626» صادر أيضاً عن الأمن العام، وبتوقيع من المفتش العام للشرطة في بيروت، الدور الذي أُنيط بالأحدب، الذي تم تجنيده ليس للعمل الإعلامي فقط، بل أيضاً للعمل لمصلحة الوكالة اليهودية. وجاء في التقرير: «لقد فشلت فشلاً ذريعاً الخطوة التي قام بها خير الدين الأحدب لدى لجنة الشبيبة الإسلامية في بيروت، والتي هدفت إلى حث تلك اللجنة على أن ترسل إلى مسلمي فلسطين نصائح باعتدال يمكن أن تؤدي إلى مصالحة بين الصهاينة والعرب. كما لم يخف صلاح بيهم مدير «العهد الجديد» دهشته من «قيام الأحدب بدور صلة الوصل بين السيد غالفارسكي وبين مسلمي سوريا». وختم بالقول: «إن الصهاينة ليس بوسعهم أن ينتظروا إلا موقفاً معادياً من أخوة الفلسطينيين في الدين من لبنانيين وسوريين».
وفي تقرير مماثل يحمل الرقم 558 صادر من بيروت بتاريخ 7 آب 1930 تفاصيل عن لقاء آخر مع الأحدب جاء فيه ما يأتي: «بلغني أن الوكيل الصهيوني توفيق مزراحي قد سلم الأسبوع الماضي لخالد الأحدب (الصحيح خير الدين الأحدب) مدير «الشرق الجديد» 40 ليرة فلسطينية أرسلتها اللجنة الصهيونية في القدس. وبلغني أن هذا المبلغ قد جرى تسليمه وفقاً لاتفاق عُقد بين اللجنة الصهيونية والأحدب أثناء رحلته الأخيرة إلى فلسطين. كما يذكر أن اللجنة الصهيونية تولي اهتماماً بالصحف اللبنانية – السورية من أجل حملتها الدعائية، وهي صحف واسعة الانتشار في البلدان العربية، أكبر ممّا توليه للصحف الفلسطينية ذات الانتشار المحدود».
وأشار تقرير آخر صادر عن إدارة جهاز المعلومات في المشرق بتاريخ 30 آب 1930 إلى الآتي: «حالياً، يسعى كلٌ من سليم هراري ويوسف فارحي، وهما وجيهان يهوديان من بيروت ووكيلان في هذه المدينة للوكالة اليهودية في القدس، إلى اجتذاب صحيفتين جديدتين في بيروت إلى القضية الصهيونية، وهما «الأحرار» و«الراصد». وبلغني أنّ هراري وفارحي قد تلقيا لهذا الغرض مبالغ كبيرة من الوكالة اليهودية. في الوقت نفسه، بلغني أنهما تلقيا مبلغاً قدره 50 ليرة فلسطينية لمصلحة «العهد الجديد»، وهي صحيفةٌ يمولها الصهاينة منذ عدة أشهر. وقام توفيق مزراحي، وهو وكيلٌ صهيونيٌ آخر، بتسليم المبلغ في هذا الشهر».
سبق ذلك أن أشار تقرير آخر بعنوان «الصهاينة وصحف بيروت» بتاريخ 27 كانون الأول 1929 إلى الآتي: «بلغني أنّ اللجنة الصهيونية في القدس قد كلّفت السيد غالفارسكي، العضو النشيط جداً في تلك اللجنة، بالدعاية الصهيونية في سوريا ولبنان. وأثناء مرور السيد غالفارسكي في تشرين الأول المنصرم ببيروت، عمل على كسب [جبرائيل] الخباز و[جورج] نقاش وهما على التوالي مدير ورئيس تحرير صحيفة «L’Orient» (الشرق)، إلى القضية الصهيونية. وعلمت أنّ المباحثات جرت في مكتب الصحيفة، وإنّ غالفارسكي عرض تقديم 500 اشتراك بالصحيفة باسم اللجنة الصهيونية، بقيمة جنيهين إسترلينيين لكل اشتراك، بحيث يدفع كامل المبلغ على ثلاث دفعات سنوياً. فضلاً عن ذلك، طلب أن تنشر الصحيفة كل المقالات التي ترسلها إليه اللجنة الصهيونية. وبلغني أيضاً أنّ الخباز طلب 2000 ليرة فلسطينية، بحيث يكون نصفها للاشتراكات الـ 500، واحتفظ بالحق في ألّا ينشر سوى المقالات التي يجدها مناسبة. توقفت المباحثات عند تلك النقطة، بعد عدم التمكن من تحقيق أي اتفاق. كما علمت أنّ خطوةً مماثلةً قد جُرّبت، مع الكسندر خوري مدير وصاحب جريدة «اليقظة» إلا أنها فشلت أيضاً.
وبعد مدة، علمت أنّ غالفارسكي كتب في التاسع من كانون الأول من القدس إلى توفيق مزراحي، وهو إسرائيلي ويدير صحيفة (تجارة المشرق) في بيروت، كما أنه عميلٌ صهيوني في تلك المدينة. ويمكن اختصار الرسالة، التي أُرفقت بشيك بقيمة 150 ليرة فلسطينية، على النحو الآتي:
1) تعيّنك اللجنة الصهيونية مراسلاً في بيروت لصحيفة «الحقيقة» التي ستصدر في القدس باللغة العربية بدءاً من الأول من كانون الثاني. وسوف تنال راتباً شهرياً قدره 15 ليرة فلسطينية.
2) كتبت لصديقي الخباز لأطلب منه ألا ينشر شيئاً ضدنا. اذهب لمقابلته ومعك كولبير (عميل صهيوني آخر في بيروت) وأعطه 100 ليرة فلسطينية من طرفي. أما الباقي من الشيك الذي أرفقته مع الرسالة (50 ليرة) فهو مخصص لصحيفة «اليقظة». من فضلك، قدم هذا المبلغ للسيد خوري. لقد أبلغت السيدين الخباز وخوري بأنني سوف أتفق معهما نهائياً أثناء زيارتي التالية لبيروت، في أوائل كانون الثاني. وبلغني أنّ مزراحي قد قام بمهمته لدى الخباز وخوري.
يُحكى عن وجود مساعٍ حثيثة لدى صحفٍ أخرى في بيروت ودمشق لاجتذابها إلى القضية الصهيونية. وبلغني أنّ اللجنة الصهيونية في القدس قد رصدت لهذه الغاية في ميزانيتها لعام 1930 مبلغاً بقيمة 4 آلاف ليرة فلسطينية، أي ما يعادل 500 ألف فرنك تقريباً».
أخيراً يبدو أنه تم الاتفاق بين «الأوريان» والصهاينة، بدليل أن نشرة معلومات أمنية فرنسية صادرة من بيروت بتاريخ 6 كانون الثاني 1930 تقول: «أثناء مرور غالفارسكي في بيروت دفع لجريدة «الأوريان» مبلغ 100 ليرة فلسطينية، ولجريدة رفاي [Reveil] 50 ليرة. كما عُقد اتفاق بين توفيق مزراحي ومدير الأوريان l’Orient الخباز التزم بموجبه المزراحي بـ 200 اشتراك في الصحيفة مقابل نشر المقالات».
مقارنة بين الأمس واليوم يتبيّن لنا أن المشهد لم يتبدّل. يتنافس الإعلام الممول من الخارج في تشويه النضال ضد الاستيطان، وينشرون الأضاليل بهدف واحد فقط إرضاء الممول. تغطية الجرائم الصهيونية في الأبواق المأجورة اللبنانية متواصلة، وأصحاب الدكاكين يروّجون لبضاعتهم لنيل المزيد من المموّل.
[مصدر التقارير الفرنسية هو مركز الأرشيف الديبلوماسي الفرنسي في مدينة نانت]
صحيفة الأخبار اللبنانية