«الإخوان» إذ «يتمكنون» من مصر (ربيع بركات)

 

ربيع بركات

في منطق «الإخوان المسلمين»، الوصول إلى السلطة هدف يبرر نسج تحالفات ويوجب فض أخرى. في عالم السياسة، هذا من الأبجديات. لكن في عالم «الإخوان»، ثمة دوافع عميقة تتجاوز دواعي البراغماتية السياسية. ومنبت هذه الدوافع يرجع إلى الأدبيات المؤسسة.
ففي أدبيات مؤسس «الإخوان» الشيخ حسن البنا، «التمكين» خطوة مفصلية في مسار الجماعة. و«التمكين» عبارة تحال إلى نص قرآني وتلبس لبوساً سياسياً. القصد من ورائها تثبيت الجماعة في السلطة، وترجمتها العملية إحداث تماهٍ بين الاثنين. وتشبه الفكرة هنا تلك التي قامت عليها بعض أدبيات حزب «البعث» التي سعت إلى تكريسه حزباً «حاكماً» أو «قائداً» في سوريا والعراق (علماً أنها في حال «البعث» لم ترد في أي من النصوص المؤسسة للحزب بل دمغت تجربته في ما بعد إثر تحكم التيار العسكري بمفاصله على حساب التيار المدني). وقد طبقت الحركة الإسلامية (ذات الخلفية الإخوانية) في السودان هذا المبدأ على يد حسن الترابي إثر تسلمه السلطة (متحالفاً مع الجنرال عمر البشير) العام 1989، وتطهيره المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية من مناوئيه واستبدالهم بكوادر «الجبهة القومية الإسلامية».
وما يعين على تغليب منطق «التمكين» داخل جماعة «الإخوان»، تحديداً في مصر، عاملان رئيسيان:
أولهما يتعلق بطبيعة التيار المتنفذ داخل الجماعة: فإن رجحت كفة المحسوبين على «التنظيم الخاص» وأدبيات سيد قطب، مالت الجماعة إلى النهم السلطوي واستعجال الاستحواذ. وإن قدر لأفكار المعتدلين فيها كالمرشد العام في الثمانينيات عمر التلمساني أن تسود، ظهر ميل لخوض المراحل من دون حرقها، من غير أن يعني ذلك تخلياً عن أدبيات «التمكين» بحد ذاتها.
أما العامل الثاني فيرتبط بطبيعة المرحلة السياسية. فحين تكون الظروف مؤاتية، تخوض الجماعة غمار السياسة مع حلفاء يسهل ابتلاعهم، وتتحلل من عبء الحلفاء عند أول مفترق طرق حين تصعب عملية الابتلاع. والسلوك هذا، وإن كان شائعاً (ومشروعاً) في العمل السياسي، إلا أنه غالباً ما يبدو محركاً مركزياً لسياسات الجماعة وتعاطيها مع الأحداث.
ويمكن فهم التحالفات الانتخابية لـ«الإخوان» في مصر تاريخياً من هذين المنظارين. فالتحالف مع حزب «الوفد» الليبرالي في انتخابات العام 1984 عُدَّ انفتاحاً سياسياً لافتاً، وبدا تجاوزاً لمنطق الانعزال وسائر مقدمات الاستفراد بالسلطة. وهو، من ناحية، جاء أثناء ولاية المرشد الإصلاحي عمر التلمساني الذي رعى جيلاً جديداً داخل «الإخوان» (من رموزه عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد حبيب). وأتى، من ناحية أخرى، توازياً مع ظروف تخفيف السلطة قبضتها على الحياة السياسية في السنوات الأولى لحكم مبارك، الأمر الذي شجع على التفاهم مع ليبراليين يسهّلون الوصول إلى البرلمان بعد سنوات من السجن والإبعاد.
في المقابل، وحين ظهرت قدرة الجماعة على نيل حصة أكبر في مجلس الشعب مع إمكانية التحلل من تحالفها السابق مع «الوفد» (انتخابات العام 1987)، اختارت لنفسها تشكيل لائحة مع حزبي «الأحرار» و«العمل» الإسلاميين، وهما اللذان استسهلا معها رفع شعارها الذي يخدم للحشد ولا تُعرف أدوات تطبيقه: «الإسلام هو الحل». ثم راح «الإخوان» يقضمون قواعد الحليفين شيئاً فشيئاً، حتى أصبح أحدهما على هامش الحياة السياسية واندثر الثاني منها تماماً. وقد جاء الاندفاع إلى الاستحواذ هذا بعد وفاة التلمساني وأثناء ولاية مرشد جديد (حامد أبو النصر)، ومع عودة رموز التيار التقليدي للسيطرة على مفاتيح الجماعة (كخيرت الشاطر ومحمد مهدي عاكف).
وقد تنوع تعاطي الجماعة مع نظام مبارك بمثل ما تفاوت تعاطي سائر القوى السياسية في مصر معه. فهادنت معظم الأوقات وحادت عن الهدنة مرات قليلة. وتزامن ذلك مع ازدياد حدة التصحر السياسي الذي خلفه النظام. وحين ظهرت إمكانية جدية للدخول في جنة السلطة العام 2005 بحيازة الجماعة ثمانية وثمانين مقعداً للمرة الأولى في تاريخ المعارضة السياسية في مصر، خفتت لهجتها حيال النظام وصولاً إلى حد عدم ممانعتها «التمديد» ولا «التوريث» طالما ترافق الأمر مع «إصلاح سياسي» (من تصريح لنائب المرشد العام للجماعة محمد حبيب في العام نفسه).
وتشبه سلوكيات الجماعة في مصر حيال قضية السلطة الكثير من تجاربها في المحيط العربي. ففي الأردن، كانت حليف النظام المدلل. وفي وقت منع النشاط السياسي عن قوى المعارضة طوال عقود، سمح لها بذلك على اعتبار أنها «منظمة اجتماعية». وفي العراق تحالفت مع عبد الكريم قاسم المقرب من الشيوعيين في الخمسينيات ومطلع الستينيات، إلى حد أن أحد مؤسسي ذراعها السياسي (الشيخ طه جابر العلواني) كان مديراً لمكتب قاسم نفسه، فيما آثرت بعد احتلال بغداد دخول مجلس الحاكم «بريمر» المدني الانتقالي. وإذا ما استثنينا «إخوان» سوريا في عهد دولة الوحدة مع مصر وكلام مرشدها العام مصطفى السباعي عن الحاجة إلى دعم المشروع الناصري، أمكن القول إن بوصلة التحالفات كانت تتغير بتغير معالم الطريق إلى السلطة.
لا تمارس جماعة «الإخوان» المصرية اليوم ما يشذ عن هذا النهج، بل ثمة ما يضاعف من إغراء السلطة وقد وصلت إليها متخففة من رموزها الإصلاحية الأقل حماسة إلى الاستئثار (مع استقالات أبو الفتوح وحبيب والهلباوي وآخرين). وهي، برغم سجل تضحياتها زمن مبارك، والتسليم بتعرضها لتنكيل معنوي من جانب بعض المعارضة يفوق مسؤوليتها الحقيقية، إلا أنها تتعامل مع مصر ما بعد الثورة على أنها جائزتها المستحقة. وقد دفع سلوك الجماعة هذا خلال العام المنصرم بعض خصومها إلى القول، إن الخوف الحقيقي لا يتعلق ببقايا «الدولة العميقة» للنظام السابق، بقدر ما يرتبط بمقدمات هذه الدولة على أيدي «الإخوان» أنفسهم.
وبالإمكان رصد جملة واسعة من سلوكيات «الإخوان» السياسية التي تعزز فرضية خصومها، حيث أن فتح الجبهات مع الخارجين عن دائرة الاحتواء كانت شاملة. بينها الإطاحة برئيس جامعة الأزهر في سياق الحرب الباردة مع مفتيه، وإقالة النائب العام قبل التراجع عنها تحت ضغط الجسم القضائي، والتجاذب مع المؤسسة العسكرية الذي يأخذ شكل الصراع حيناً والتفاوض حيناً آخر. وفي مقابل كل ذلك، برزت استعادة تجربة احتواء الجماعات الإسلامية الأصغر تحت شعارات «الشريعة»، بمثل ما ظهر إنكار «الجماعة» وجود معارضة لها خارج إطار «الفلول».
ثمة ما يستوجب التوقف عنده في هذا المسار الانحداري السريع لتجربة حكم «الإخوان». فحتى لو أمكن الرئيس المصري أن يراوغ بعض الوقت، لن يكون الأمر خالياً من المطبات الحادة ولا بمنأى عن التحديات العاصفة. ويرجح أن ينتهي في حال استمراره على هذه الشاكلة بخسائر جسيمة على صعيد الجسم التنظيمي للجماعة وقدراتها المستقبلية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى