على شاهدةِ قبرٍ في مدينة هيراكليون في جزيرةِ كريت اليونانيّة، كُتِبَت عبارةٌ موغلةٌ في العمق تجاوزت حدودَ الزمان والمكان أفصحت عن خلاصة تجربةِ إنسان سعى طيلةَ حياته أن يكتشف كيف يمكنهُ الوصول للحريّة.
نعم الحريّة؛ تلك الشابّةُ الفاتنة العصيّةُ على الفهم والتي كانت محطّ أنظار المفكّرين والفلاسفة والكتّاب على مرّ الزمن دون أن يحصلوا على وصفٍ واضحٍ حولها وهي التي أعتقت نفسها من كلّ التعريفات والتأطيرات والخرائطِ الجاهزة التي تمكّنهم من الوصول إليها.
إنّ ذلك الإنسان صاحب العبارة الشهيرة هو الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس، والعبارة التي كتبت على قبره هي: “لا آملُ شيئاً، لا أخشى شيئاً، أنا حُرّ”.
قد لا يبدو غريباً ذلك الربط الجليّ بين اجتثاث حشرة الخوف من النفس وبين الحريّة، فالخوف ولا شكّ من أكبر أعداء الحريّة إن لم يكن أكبرهم، فكيف يمكن لأحدٍ ما أن يكون حُرّاً دون أن يتحرّر من أصفادِ مخاوفه وأوهامه؟!
ما دمتَ حُرّاً فأنتَ لن تخافَ من شيء، وستفكُّ كل الخيوط التي نسجَتها تلك الحشرة المقيتة حول أفكارك لتكون قادراً على رؤية الأمور على حقيقتها دون أن يفقأ الخوفُ عينيك فيجعلك تتلمّس الأشياء من حولك وتعطيها معانيها من وحي تهيّؤاتك التي كوّنتها عنها مسبقاً، لا كما هي عليه حقّاً.
قد تكون مصادرُ الخوف حقيقيّة بالفعل وليست محض توهّمات، ولكن في جميع الأحوال وكما يقول نجيب محفوظ “الخوف لا يمنع من الموت لكنّهُ يمنع من الحياة” لذا إن أردت أن تكون حُرّاً عليك أن تكون شجاعاً بما يكفي لتفهم بأنَّ الفناء جزءٌ من الوجود لكنّ الفرق شاسعٌ بين مَن يعيش متقوقعاً على نفسه خلف قضبانِ زنزانتهِ المقفلة، وبين مَن يموتُ وهو يحاول فتحَ أبوابها!
وأمرٌ آخر؛ مَن قال بأنّ الحريّة شجرةٌ مثقلةٌ بالثّمار ليسَ لها مالكون، يقطفُ منها مَن يشاء وقتما يشاء دون أن يدفعَ ثمناً؟!
ثمارُ تلكَ الشجرةِ – أيّها السّاعي إلى تذوّقها- ثمنها باهظٌ للغاية، وإيّاك أن تعتقد بأنك قد تجدُها في أي بستان أو على أية طريق، هي من ذلك النوع من الأشجار الذي لن تكونُ بعد تذوّق ثماره كما كنتَ قبلَ ذلك، لكنْ يمكنك أن تفرحَ بأمرٍ واحد وهو أنّه بقدر سعيك وتعبك وبحثك المخلصِ عنها بقدر ما ستجدها أخّاذةً شهيّةً متفرّدةً لم يسبق لكَ أن تذوّقتَ مثيلها.
وأمّا بالنسبة للشقّ الأوّلِ من العبارة فيبدو متمرّداً على السّائد، إذ كيف يمكن للمرء أن يكون حرّاً دون أن يأملَ شيئاً وسط عالمٍ يلهثُ فيه الجميع وراء أحلامهم وطموحاتهم، تُرى ما الذي كانَ يرمي إليه ذلكَ الكاتب الفيلسوف في تلك اللحظة الحاسمة التي كتبَ فيها رؤيتهُ الجريئة هذه؟!
إنّني ورغم تحفّظي على تعبيرِ الأمل الذي استخدمهُ كازانتزاكيس وشعوري بأنّه كان يَقصِدُ الانتظار بدلاً منه، أستطيعُ أن أفهم لمَ جعلَ منهُ عائقاً أمام الحريّة، فالأملُ رغم أهميّته في حياة كلّ إنسان إلّا أنّهُ قد يكون أحدَ الأصفاد التي تكبّلُ روحهُ فيما لو جعلها تعيشُ حالةَ انتظار دائمة، فأن تبقى رهينةَ الانتظار طول حياتك وأنتَ تأملُ أمراً ما شكلٌ من أشكال إهدارِ اللحظة الرّاهنة، فالحُرُّ يأمَل لكن دون أن ينتظر، يأمَل لأنّه واقفٌ في حضرةِ الحريّة حيثُ لا حدود تحدُّ تطلّعاته ولا أغلال تقيّدُ أحلامهُ ولا سقوف تفجُّ رأسَ توقّعاته، لكنّهُ بالمقابل لا ينتظر شيئاً لأنّهُ مدرِكٌ بأنّ الحياةَ سلسلةٌ من اللحظات المتّصلة التي يجب أن تُعاش كلّ لحظة بلحظتها، فإنْ انشغلَ راكبُ القطار بالوجهة طيلة الوقت لَفَاتَهُ الكثير من مُجرياتِ الرحلة ومُتَعِها دون أن يكون قد راعى احتمالَ موتهِ وهو يجلسُ على مقعدهِ ذاك منتظراً أن يصل إلى وجهته المأمولة!
تلكَ هي الحريّةُ إذاً، أن تبدأَ بتحرير عقلك من كلِّ القيود التي تُكبّلهُ، أن تشقَّ عبابَ المخاطر لتقرّر فيما إذا كنت تريد أن تعيشَ في وهمٍ أم في حقيقة، إن فعلتَ ذلك فستكون جاهزاً لتصبحَ قبطانَ رحلتك، تقودُ دفّةَ سفينتك في غمار البحارِ الشاسعة وفقاً للاتجاه الذي تريده أنت، لكن دون أن تصطدمَ بالسُفُنِ التي في الجوار أو تعرقل مسار حريّتها.
أن تكون حُرّاً يعني ألّا يوجد ما يمنعك من إظهارِ طاقاتك وإمكاناتك فتستطيعَ القيام بما تريد القيام به وقَول ما تريد قوله دون أن تُحاصركَ الأوهام أو تزجرك الظروف أو ترهبكَ فعائلُ الحلقات الأقوى منك.
أن تكون حرّاً يعني أن تبني تصوّراتك الخاصّة عن الحياة من حولك دون أن تشعر بأنّ اختلافها عن تصوّرات الآخرين هو ذنبٌ عليكَ التكفيرُ عنه، فأنتَ على يقين بأنّ لكلٍّ منظارهُ الخاص، واختلافُ زاوية الرؤية درجة واحدة قد تجعل المشهد مختلفاً مئة وثمانين درجة، لكنّ ذلك لا يعني بالتأكيد بأنّ هناك عطباً أصابَ مناظير جيرانك الذين ينظرون إلى ذاتِ المشهد.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة