ما أن غادر بشار الأسد سورية، وانهارت البنى العسكرية والأمنية التي يعتمد عليها نظامه، حتى أعلن مسؤولو حزب البعث، وهي الأداة السياسية التي اتكأ عليها النظام، عن تجميد عمله، وهي إشارة (جريئة) إلى عجزه عن مواجهة المستجدات المتسارعة وإعلان ضمني عن مسؤوليته عن انهيار الحياة الحزبية والسياسية في سورية في ظل حكمه الذي بدأ في 18 تموز 1963 بعد أن قام بإبعاد الناصريين عن الحكم الذين تحالفوا معه في الثامن من آذار عام 1963 بمجزرة دموية سياسية عرفت في وثائق الحزب بحركة جاسم علوان أو حركة 18 تموز قتل فيها من الناصريين نحو مائتين.
وحزب البعث هنا ، هو الوعاء الذي حشد النظام السابق ملايين السوريين في صفوفه، ومع ذلك أثبت عجزه في أكثر من منعطف في الحياة السياسية السورية، فأعداد لافتة من أعضائه كانت تنتمي إلى أحزاب المعارضة، وخاصة حزب الإخوان المسلمين، مما اضطر النظام السابق في مطلع ثمانينات القرن الماضي، إلى الحكم بالإعدام على أي عضو في البعث يثبت اشتغاله مع الإخوان، ثم وقع الحزب في مشكلة أخرى بعد اندلاع الحرب على السوريين في عام 2011 عندما لجأت القيادة السياسية (وقتها) إلى ابتكار أحزاب سياسية جديدة لإثبات الانفتاح السياسي، وكان أغلب أعضاء تلك الأحزاب موجودين في حزب البعث أيضا والوثائق متوفرة، وهناك عدد كبير من هذه الأحزاب لم تفعل شيئا، ولم تستفد من ظهورها، وتحمل إلى الآن أسماء براقة .
إن القرار الذي اتخذ بعد سقوط نظام بشار الأسد بتجميد حزب البعث حمل في طياته (بوعي أو من دون وعي) قرارا آخر هو عدم إمكانية دعوته للحوار الوطني الذي تتجه البلاد نحوه في هذه الآونة، وهذه نقطة ينبغي على الشرفاء في هذا الحزب إيجاد حل لها إذا كانت لديهم الرغبة أو الحماسة في المشاركة في بناء سورية الجديدة..
في واقع الأمر، كان حزب البعث في العقود الماضية ،ومنذ عام 1971، يقود جبهة وطنية تتألف من أحزاب معروفة في السبعينات وهي نتاج حقبة مراحل سابقة برز فيها ميشيل عفلق وأكرم الحوراني وخالد بكداش وجمال الأتاسي كالناصريين (الاتحاد الاشتراكي) والاشتراكيين العرب والشيوعيين ، ثم تشظت هذه الأحزب وتوالدت أحزاب جديدة منها ولم يحصل أي مستجد على هذا الصعيد إلا دخول القوميين السوريين (الحزب السوري القومي الاجتماعي) ، وهو الحزب الوحيد الذي يمكن القول إنه دخل الجبهة من خارجها.
في الفترة التالية لعام 2011 تحولت الجبهة إلى إئتلاف، وتم قطع المساعدات التي تقدم للأحزاب، بل إن بشار الأسد لم يعقد أي اجتماع لها، بعكس ما فعله حافظ الأسد في مرحلة الثمانينات .
لم تعد أخبار الجبهة تظهر في الإعلام السوري (تعليمات)، وتوقفت صحفها، وانعقد قبل سنوات مؤتمر عام للجبهة ظهرت فيه أصوات قوية ، لكنها خمدت أو أخمدت فيما بعد، وران صمت على الجبهة الوطنية وكأنها مؤسسة عاجزة عن الفعل وتولى قيادة لواء في الشرطة .
ما أن غادر بشار الأسد سورية، ووصلت قيادة العمليات العسكرية في عملية (ردع العدوان) إلى دمشق، حتى استبيح مقر الجبهة في حي الروضة من الغوغاء، وسرقت منه أجهزة كمبيوتر وشاشات وغير ذلك نتيجة الفوضى، لكن ثمة أحزاب من الجبهة حددت مواقف واضحة من السقوط ، وأعلنت عن تأييدها للتغيير القادم ، ومن هؤلاء : الحزب الشيوعي السوري وحزب العهد الوطني والحزب القومي الاجتماعي..
وأصدر بعضهم بيانات واضحة (حزب العهد الوطني والشيوعي) وشارك ممثلو هذه الأحزاب بالتوقيع على بيانات تشير إلى ولادة تجمعات سياسية .
وكان ملاحظا أن مثل هذه الأحزاب ، لم تكن تجرؤ على النشاط خارج إطار الجبهة، بل إن الدكتور عماربكداش لم يرشح في قائمة الجبهة لانتخابات مجلس الشعب الأخيرة ، مما دفعه إلى ترشيح نفسه بشكل مستقل ، ولم يتمكن من الحصول على مقعد ، وقد حصل هذا عندما عارض الحزب الشيوعي ما أسماه بالفاشية المتمثلة بجمعية المرتضى (جميل الأسد) في انتخابات مجلس الشعب (الثمانينات ) فأسقط من قائمة الجبهة ، وترشحت وصال فرحة بكداش بمعزل عن القائمة وأيضا فشلت في الحصول على مقعد .
إن التطورات المتلاحقة تستدعي نقدا ذاتيا من أحزاب الجبهة، تحدد فيه مواقفها الجديدة، ومن الممكن أن تدافع عن تجربتها في العقود الماضية، وهذا وارد، إلا أن الجمهور السياسي لن يقبل أي توجه من هذا القبيل لمعرفته بأن كل الأحزاب التي انضوت في الجبهة تحولت عن استقلاليتها منذ السبعينيات وأصبحت مجرد جوقة ، والكلام (ليس لي) .
يتبع ..
بوابة الشرق الأوسط الجديدة