في أوّلِ خطابٍ لهُ بعدَ تعيينِهِ رئيساً لِسوريا في المرحلةِ الانتقاليةِ، وتكليفِهِ بتشكيلِ مجلسٍ تشريعيٍّ جديدٍ، أكّدَ الرئيسُ السوريُّ أحمدُ الشرعُ التزامَهُ بتحقيقِ السِّلمِ الأهليِّ، وملاحقةَ المسؤولينَ عنِ الجرائمِ بحقِّ الشعبِ السوريِّ، سواءٌ داخلَ البلادِ أو خارجَها. كما شدَّدَ على وَحدةِ الأراضي السوريا تحتَ سلطةٍ واحدةٍ، واستكمالِ مسارِ فرضِ السيادةِ الوطنيَّة وهو ما يعني العمل على استعادة الأراضي السوريا المحتلة سواء في الشمال والشمال الشرقي أو في الجنوب.
خطابُ الشرعِ هذا يأتي استكمالاً للقراراتِ التي أُعلِنَ عنها قبلَ أربعٍ وعشرينَ ساعةً تقريباً، وفي مقدِّمتِها حلُّ الفصائلِ المقاتلةِ تمهيدًا لتشكيلِ جيشٍ وطنيٍّ يضمُّ جميعَ أبناءِ سوريا، دون استبعاد أي مكوّن من المكوّنات السوريا المذهبية أو العرقية أو الدينية إضافةً إلى تشكيلِ حكومةٍ انتقاليةٍ تعملُ على إجراءِ انتخاباتٍ حُرَّةٍ ونزيهةٍ. وهي خطوات من شأنها أن تُشكِّلُ حجرَ الأساسِ لإعادةِ بناءِ بلدٍ أنهكَتْهُ الحربُ، ودمَّرهُ الفسادُ، وتآكلتْ بعض مؤسساتُهُ حتى باتتْ هشَّةً وضعيفةً وعبئاً على اقتصاده الذي أضحى بأمسِّ الحاجة إلى إعادة بناءٍ على أسسٍ تحمي وحدة البلد وكرامة الإنسان، من خلال تهيئة بيئة صالحة لسيادة القانون تتمثل في عدم الاستعداد لمخالفة القانون وتنفيذه بصرامة، تستوجب معاقبة كل مخالف أو متجاوز له، وحماية المصالح العامة ومصلحة الشعب والانضباط الاجتماعي.
وهو ما يعني أن المرحلةَ المقبلةَ ستكونُ حاسمةً، نظرًا لحاجةِ سوريا الماسَّةِ إلى بناءِ مؤسَّساتٍ قويَّةٍ وفعَّالةٍ تعتمدُ على الكفاءةِ والنزاهةِ، بعيداً عنِ المحسوبيَّاتِ والفسادِ اللذينِ شلَّا الاقتصادَ ومزَّقا المجتمعَ. لا سيما أنَّ الحربَ خلَّفتْ شرخًا كبيراً في العلاقاتِ العربيَّةِ والدوليَّةِ لسوريا، ممَّا يجعلُ استعادةَ هذهِ العلاقاتِ ضرورةً لا تقلُّ أهميَّةً عن إعادةِ بناءِ الداخلِ. فالبلدُ يحتاجُ إلى اقتصادٍ وطنيٍّ متماسكٍ، يُعيدُ للمواطنِ السوريِّ كرامتَهُ بعدَ أنْ أرهقَتْهُ الحاجةُ، واضطرَّتْهُ الظروفُ إلى البحثِ عن لُقمةِ العيشِ داخلَ البلادِ وخارجَها، في ظلِّ نظامٍ صادرَ حُرِّيَّاتِهِ ودمّر اقتصاده.
إنَّ السياساتِ القمعيَّةَ التي فرضَها النظامُ البائدُ لم تقتصرْ على الداخلِ، بل أدَّتْ إلى استنزافِ العقولِ والكفاءاتِ السوريا، وإفراغِ المؤسَّساتِ منِ الخبراتِ، ممَّا أدَّى إلى تَرَهُّلِ الإدارةِ والقضاءِ، وتَحكُّمِ الفاسدينَ في مفاصلِ الدولةِ. لا بل منظومة الفساد أرادت إفساد من لم يفسد حتى يكون الجميع مداناً تحت الطلب وفق رؤية الفيلسوف السوري الدكتور طيب تيزيني، عبرَ منظومةِ تتيحُ التَّحكُّمَ بمصائرِ الأفرادِ متى شاءتْ.
هذا الواقعُ يضعُ الحكومةَ الانتقاليَّةَ أمامَ مسؤوليَّةٍ كُبرى، ليسَ فقطْ في إعادةِ بناءِ الداخلِ، ولكنْ أيضًا في استعادةِ مكانةِ سوريا الإقليميَّةِ والدوليَّةِ، وإعادةِ الكرامةِ للمواطنِ السوريِّ الذي أرهقتْهُ المنافي والحدودُ بحثاً عن لقمة العيش والحياة الكريمة. والحقيقة أنَّ الخطوطَ العريضةَ التي رسمَها الرئيسُ الشرعُ في خطابِهِ، قدْ تُشكِّلُ انطلاقةً حقيقيَّةً نحوَ استعادةِ الدولةِ لعافيتِها داخليًّا وخارجيًّا، فضلاً عن استعادة الثقة بمؤسسات الدولة.
إنَّ الكاريزما والهدوءَ اللذينِ تحلَّى بهما الشرعُ في خطاباتهِ ولقاءاتِهِ السَّابقةِ عزَّزا ثقةَ السوريينَ بنهجِهِ وحسن إدارته المستقبلية لأمور البلاد ومصالح العباد. وقدْ برزتْ هذهِ السِّياسةُ المتوازنةُ في مراجعاتِهِ الفكريَّةِ وأفكارِهِ التي طرحَها حتَّى قبلَ وصولِهِ إلى دمشقَ، وبعدَها خلالَ لقاءاتِهِ الإعلاميَّةِ معَ الداخلِ والخارجِ، إلاَّ أنَّ أكبرَ التحدِّياتِ التي تواجهُ أيَّ ثورةٍ ناجحةٍ تكمنُ في الانتقالِ من مرحلةِ إسقاطِ السُّلطةِ إلى ترسيخِ الدولةِ، معَ ضمانِ عدمِ إعادةِ إنتاجِ الفسادِ تحتَ مسمَّياتٍ جديدةٍ. لقدْ أثبتتِ التَّجاربُ الإقليميَّةُ والعالميَّةُ أنَّ غيابَ هذا التَّمييزِ يؤدِّي إلى إعادةِ تدويرِ الأزماتِ بدلًا من حلِّها. لذا، فإنَّ المهمَّةَ الأساسيَّةَ اليومَ ليستْ فقطْ إعادةَ بناءِ الدولةِ، بلْ تحصينَها من الوقوعِ مُجدَّدًا في قبضةِ الفسادِ والاستبدادِ، من خلالِ وضعِ إطارٍ دستوريٍّ واضحٍ يضمنُ سيادةَ القانونِ، ويَفصلُ بينَ السُّلطاتِ، ويكفلُ حقوقَ جميعِ المواطنينَ بمختلفِ انتماءاتِهِم السِّياسيَّةِ والثقافيَّةِ والدينيَّةِ والعِرقيَّةِ.
إنَّ التَّحدِّياتِ، الأمنيَّةَ والسِّياسيَّةَ والاقتصاديَّةَ التي تواجهُ سوريا، إلى جانبِ قضيَّةِ المهجَّرينَ والنَّازحينَ، تتطلَّبُ تضافرَ جهودِ جميعِ السُّوريينَ، داخلَ البلادِ وخارجَها. وهنا يأتي دورُ النُّخبِ والكفاءاتِ في المساهمةِ الفعَّالةِ من خلالِ تقديمِ الرُّؤى والحلولِ العمليَّةِ، والمشاركةِ في صياغةِ الإطارِ القانونيِّ والدُّستوريِّ الذي يحكمُ المرحلةَ الانتقاليَّةَ، بما يضمنُ تأسيسَ نظامِ حكمٍ ديمقراطيٍّ عادلٍ ومستقرٍّ.
اليومَ، تقفُ سوريا على مفترقِ طُرُقٍ حاسمٍ، فإمَّا أنْ تسيرَ في طريقِ بناءِ دولةٍ حديثةٍ قائمةٍ على القانونِ والعَدْلِ، وإمَّا أنْ تقعَ في فخِّ الفوضى وإعادةِ إنتاجِ الاستبدادِ، ومنْ يتابعُ تحرُّكاتِ الشَّعبِ السوريِّ يُدركُ أنَّ مصيرَ البلادِ لم يَعُدْ بيدِ قادتِها الجُدُدِ وحدَهم، بلْ أصبحَ، بدعمِهم، مسؤوليَّةَ كلِّ فردٍ منْ أبنائِها، داخلَ البلادِ وخارجَها.
السَّفينةُ مُشْرَعَةٌ، والرِّياحُ مواتيةٌ…
فهلْ يكونُ السُّوريُّونَ على قَدْرِ المسؤوليَّةِ، فيغتنمونَ هذهِ الفُرصةَ التَّاريخيَّةَ ليصوغوا مستقبلاً جديداً يليقُ بتضحياتِهم؟
بوابة الشرق الأوسط الجديدة