حسن سامي يوسف : الحُبّ تحت القصف
![عن فَخ الحبّ ، الذي لا فكاك منه، لا بالهَجر، ولا بالتخلّي، ولا حتّى بفقدان الذاكرة ، كتب الروائي الراحل حسن سامي يوسف روايته الأخيرة](https://greatmiddleeastgate.com/wp-content/uploads/2025/02/2031-1.jpg)
عن فَخ الحبّ الأبديّ، الذي لا فكاك منه، لا بالهَجر، ولا بالتخلّي، ولا حتّى بفقدان الذاكرة والفِصام، كتب الروائي والسيناريست الراحل حسن سامي يوسف روايته الأخيرة «الغفران: فتاة القمر»، الصادرة قبل أشهر من وفاته (دار كنعان ـــ 2024). إنّها حكاية عن الحُبّ والفراق، وسط ليالي دمشق الهادرة بالقذائف هُنا وهُناك، لبطلين هَشّين، مسكونين بلعنة العاطفة، ومُتطرّفَين بالرومانسيّة الهالكة.
يستهلّ كاتب مسلسل «الندم» الشهير روايته بمشهد درامي تحت عنوان «حسناء الصّباح»، عندما ترنّ جرسَ الباب مرّتين قصيرتين امرأةٌ حسناء، تغيب ملامح وجهها خلف كمّامة خَمريّة وناعمة في زمن الكوفيد اللعين، يفتح لها السيناريست عروة باب بيته، ويتّضح سبب الزيارة بعدما يعدّ القهوة لزائرته والشاي لنفسه: «إنّها تطلب منّي أن أصالح بينها وبين ابنتها، فهما في خصامٍ تامٍ ومزمن.
حسن سامي يوسف: الحُبّ تحت القصف
والمرأة تعتقد بأنّ البنت لا ترفض لي طلباً». خلال سَرد روائيّ تقليدي حول هذه الجلسة الصباحيّة المفاجئة، يحكي الراوي عن معرفته بهذه المرأة التي تدعى مَيّة. عن طريق صداقة قديمة تربطه بزوجها عمَر، وابنتهما شادن. وعمَر مهندسٌ مَدنيٌّ، ورث عن والده حاكورة في أطراف منطقة المزّة، في زمن لم يكن يرغب فيه أحدٌ من سكّان دمشق بالإقامة في تلك المنطقة الزراعيّة الأشبه بمنفى. فباعها قبل أن تشهد تلك المنطقة نهضةً عمرانيّةً حوّلتها إلى حيّ «المَزّة» الحالي الشهير، ليعيش في وقت لاحق ندماً على فراقين: فراق جنّة ورثها عن والده وفرَّط بها. وفراق غير شهيّ عن زوجته وحبيبته ميّة بسبب الطلاق بينهما. وهو مَن اختصر نظرته إلى الحياة على أنّها «رجلٌ وامرأةٌ وما يحيط بهما»، ما يذكّرنا بقول ابن الخيام الشاعر «حسن العبد الله»: «الحياة قليلةٌ/ الحياة أقل من امرأتين».
تنتهي هذه الزيارة الصباحيّة بوعدٍ من عروة بأن يسعى إلى الصلح بينها وبين ابنتها. مع طلب يترك لها حريّة الموافقة عليه أو رفضه: «أريد أن أكتب عن عمَر وعنك، وعن شادن أيضاً، وعن نفسي كذلك، ولكنّني لن أذكر الأسماء الحقيقية بطبيعة الحال. واسمحي لي أن أعترف لك بالمزيد: هذه الكتابة ليست جديدة، الشيء الجديد هو حضورك المفاجئ هذا الصباح…».
وسيكتشف القارئ مع كلّ صفحة لِمَ لَمْ تكن هذه الكتابة بالجديدة عليه، وأنّ ذهابه بعد مغادرة مَيّة إلى مصرف لبناني في دمشق، ليس من باب خَلق مشهد دراميّ عبثيّ، يسلّط فيه الضوء على أزمة القطاع المصرفيّ في لبنان. إذ يحتاج القارئ بعضَ الصبر، ومتابعة القراءة ليصل إلى الفصل الثالث والأخير «رائحة الألم» حيث يكمن بيت القصيد. لكن قبل ذلك، سيمرّ القارئ بالفصل الثاني الأطول في الرواية: «فتاة القمر»، الذي يمثّل مَتنها، كأنّ الفصل الأوّل مقدّمة لها، والثالث والأخير هو خاتمتها الصادمة.
فصل «فتاة القمر»
ينسج حسن سامي يوسف فصل «فتاة القمر» وفقاً لأحداث مفرطة في رومانسيتها. تتخلّلها لغة ايروسيّة في مشاهد عدة منه، من دون الخروج عن قالب كتابته المعتاد سواء الروائيّ أم الدراميّ. فيشعر القارئ عبر الأحداث والشخصيّات سواء الأساسيّة أم الثانويّة، بمزيج من رواية الكاتب نفسه «على رصيف العمر». ومن مسلسلاته الثلاثة الشهيرة: «الغفران»، و«الندم» الذي ذاع صيت شخصية بطله «عروة» على وسائل التواصل الاجتماعي. و«نساء صغيرات» الذي نال عنه جائزة أفضل سيناريو في «مهرجان القاهرة» عام 1999، وقد استند أساساً في كتابته إلى روايته «فتاة القمر». التي أعاد إحياءها عبر روايته الأخيرة هذه (الغفران «فتاة القمر»). التي اعتبرها امتداداً زمنيّاً للرواية الأساسيّة الصادرة عام 2000. تبقى مدينته المفضّلة دمشق مسرحاً للسرد في جميع أعماله هذه. التي خطا أبطالها جميعاً على رصيف العمر، في رحلة مشاعر تجاوزت عتبة الألم بأحزانها، بعدما نذروا أيّامهم لحبّ جارف، أخذ بهم وبسعادتهم صوب الهاوية، ليكون نصيبهم الفراق واللوعة.
تمثّل فتاة القمر في هذه الرواية البطلة مَيّة، التي ناجَت القمر عندما عصف الهوى بفؤادها. حين كانت مراهقة تتحضّر لتقديم امتحانات الثالث الثانوي النهائيّة المصيريّة. تكبر خلال الرواية وتصبح أمّاً لطفلة اسمها «شادن». أنجبتها من حبيبها عمر أو عروة، إذ سيتّضح أنّهما رجلٌ واحدٌ أودى به الحبّ إلى حالة من الفِصام وفقدان الذاكرة، ليكون هذا الفِصام أشبه بصكّ غفران لحبيبةٍ خانته، بعدما كان القدر معها كريماً، حين كلّل قصّة حبّهما بالزواج رغم الفارق العمريّ بينهما، لتأتي في وقتٍ لاحق لحظات الرتابة الزوجيّة، والشكوك حيال خيارات الحياة، التي تقودها إلى لحظة «خطيئة» مع رجل آخر، تصمّم على نكرانها، وعدم الاعتراف بها على أنّها خيانة.
الموت
وهكذا نشهد بينهما حوارات تدور بين هجر وعتاب وتذلّل واستجداء للنسيان والغفران. وبين جسد تضرم فيه نار العشق ولذة الوصال. ويبقى القمر شاهداً على معارك الهوى هذه. وملاذاً للبوح والانكسار. تكون النهاية، كما غالبية نهايات أعمال يوسف، الموت بمعنييه المجازي والاصطلاحي، بعد فرط اللوعة والنّدم: «وحيدةٌ أنت يا بنت. وحيدةٌ ومكسورةٌ. قالوا لي إنّك قد ارتديتِ الأسود حداداً عليّ. وقالوا لكِ: لقد قتل على أحد الأرصفة بانفجار قذيفة هاون من العيار الثقيل. ولم يكذبوا عليك طبعاً. لم يكذبوا عليك يا صغيرتي، فربّما أكون قد مت في ذلك الانفجار الغبيّ، وربّما أكون قد متّ بطريقة مختلفة قليلاً…».
صحيفة الأخبار اللبنانية