
يتميّزُ المثقّفُ الحقيقيُّ بقدرتِهِ على مراجعةِ أفكارِهِ وقناعاتِهِ في ضوءِ الشرطِ التاريخيِّ، حيثُ يسعى لفهمِ التحوّلاتِ المجتمعيَّةِ ومحاكمتِها فكريّاً للوصولِ إلى رؤىً أكثرَ عمقاً ونضجاً. إنَّ هذه المراجعاتِ النقديّةِ لا تعكسُ تذبذباً في المواقفِ بقدرِ ما تؤكّدُ النزاهةَ الفكريّةَ، بعيداً عن الانغلاقِ على الأفكارِ الجاهزةِ أو السعيِ وراءَ مجاراةِ السائدِ دونَ تفكيرٍ.
في المقابلِ، هناكَ من يتعاملُ مع الثقافةِ أداةً لتحقيقِ الشهرةِ أو المكاسبِ السطحيّةِ، دونَ أن يكونَ لديهِ مشروعٌ فكريٌّ حقيقيٌّ. فيَعمدُ إلى تقديمِ شهاداتِ الدكتوراه الفخريّة المزيّفة، أو “الكراتين” التقديريّة التي لا يتقن مُقَدِّمُها كتابةَ نصٍّ لا يتجاوزُ عدّةَ صفحاتٍ من دونِ عشراتِ الأخطاءِ الفادحةِ التي تكشف عيوباً وعوراتٍ؛ يحاولُ سترَها بشبكةِ علاقاتٍ مُزيّفةٍ؛ من أجل الحصولِ على شهرةٍ هنا أو مديحٍ هناك. هذا الدعيُّ الطفيليُّ يؤسِّسُ لظاهرةٍ تُشكِّلُ خطراً داهماً على المشهدِ الثقافيِّ، إذ تُكرّسُ نماذجَ تعتمدُ على العلاقاتِ والتقديراتِ الشكليةِ؛ بدلًا من المساهماتِ الفكريّةِ الفعليّةِ. في ظلِّ ذلكَ، يصبحُ السؤالُ الأهمُّ: كيفَ يمكنُ التمييزُ بينَ المثقفِ الذي يُنتجُ الفكرَ والمعرفةَ، وبينَ من يكتفي بإعادةِ تدويرِ الأفكارِ من دونِ وعيٍ حقيقيٍّ باللحظةِ التاريخيةِ؟
يؤكّدُ التاريخُ أنّ لحظةَ التمزّقِ والتفرّقِ والتشتّتِ وتَسيُّدَ البغضاءِ بين أفراد ومكوّناتِ المجتمع، يمكنُ أن تكونَ واحدةً من أهمِّ اللحظاتِ الفارقةِ التي يظهرُ فيها الحلُّ، ولا سيّما في المرحلةِ التي يراها البعضُ مرحلةَ انسدادٍ تاريخيٍّ، بينما هي مرحلةُ انفراجٍ وتأسيسِ، و نقطةُ تحوّلٍ نحوَ الوعيِ والبناءِ، بشرطِ أن يلتزمَ المثقفُ بمسؤوليّتِهِ الفكريّةِ تجاهَ مجتمعِهِ. فالتفاعلُ مع القضايا المصيريّةِ لا يتطلّبُ شجاعةً في الطرحِ فحسب، بلْ أيضًا وعيًا بعمقِ التحوّلاتِ، بحيثُ لا يصبحُ الخطابُ الثقافيُّ مجرّدَ تسجيلِ مواقفَ آنيةٍ أو استعراضاً لغويّاً، بلْ أداةً لإعادةِ تشكيلِ الوعيِ الجمعيِّ.
فالمسؤوليةُ تقعُ على عاتقِ المثقّفِ في تعزيزِ بيئةٍ ثقافيةٍ تقومُ على التفاعلِ النقديِّ والإنتاجِ الحقيقيِّ للمعرفةِ، بدلًا من ترسيخِ مظاهرِ الثقافةِ الشكليّةِ. وهذا لن يتحقّقَ إلّا من خلالِ إعادةِ قراءةِ التاريخِ والحوادث بعينٍ واعيةٍ، تُدركُ تعقيدَ الواقعِ وتستشرفُ المستقبلَ بناءً على رؤيةٍ متماسكةٍ ومتّصلةٍ بجذورِ الفكرِ الإنسانيِّ العميقِ.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة