سليمان البسّام: الثالوث المحرّم في مهبّ اللحظة (خليل صويلح)

 

خليل صويلح

إنّه أوّل نص عربي يعبر بلغة موليير إلى «الكوميدي فرانسيز» في باريس. «طقوس الإشارات والتحوّلات» الذي كتبه المسرحي الراحل عام 1994، استوحى حادثة وقعت في القرن الـ 19 في دمشق، ليوجه نقده إلى السلطة الدينية والسياسية ولمنظومة اجتماعية تستبدّ بالفرد. المسرحية التي أخرجها سليمان البسام، أحد الوجوه الأساسية في المسرح العربي المعاصر، تُختتم اليوم بعد شهرين من العروض
ليس حدثاً عابراً أن تحطَّ «طقوس الإشارات والتحوّلات» للكاتب السوري الراحل سعد الله ونوس (1941ــ1997) على خشبة مسرح الـ«كوميدي فرانسيز» في باريس (راجع المقال المقابل). ها هو أول نص عربي يعبر بلغة موليير إلى هذا الفضاء المسرحي العريق، بتوقيع الكويتي سليمان البسّام. في الواقع، فإنّ هذا النص الذي كتبه صاحب «منمنمات تاريخية» عام 1994 كان إحدى صيحاته الأخيرة التي نبّه فيها إلى ما آلت إليه أحوال الخريطة العربية من احتضار وتمزّق وفساد. مثل نصوصه الإشكالية الأخرى، يستلَّ ونوس حادثة تاريخية، ويبني عليها رؤيته المعاصرة. هذه المرّة، يستعيد حادثة من القرن التاسع عشر، جرت وقائعها في دمشق خلال الحكم العثماني، أبطالها المفتي والوالي ومومس. الثالوث المحرّم إذاً، على خشبة واحدة، في مهبّ أسئلة اللحظة الراهنة. لكن هل غادرتنا يوماً، هذه التركيبة من الاستبداد المقدّس؟ كأنّ مرور قرن ونيّف على هذه الحادثة، ليس أكثر من ساعة رمليّة في صحراء السراب.
ما يفعله صاحب «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» هو رؤية مغايرة في استلهام الحادثة التاريخية وتشريح آليات الطغيان، وفضح المستور. إذ ينحّي جانباً الأقنعة التنكرية لشخصياته، ليواجهها بحقيقتها وخزيها في تأمل فردي للتاريخ: شخصيات شكسبيرية تعصف بها الأهواء والنوازع، وترهقها الخيارات واهتزاز الهويات. هكذا، تتغير قواعد الفرجة وتذهب إلى التأويل بكل جرأة ومكاشفة. نحن إزاء متوالية سردية مرهفة وشاعرية وطليعية، كان مركز الثقل فيها حكاية «مؤمنة»، وزوجها «نقيب الأشراف»، ولعبة تزييف الحقيقة التي يقوم بها المفتي بموافقة الوالي. هكذا يفتتح النص بمشهد بين عاهرة تدعى وردة، ونقيب الأشراف، يقع ضحية مؤامرة يقوم بها قائد الدرك، تؤدي إلى فضحه وعزله من منصبه، ثم تُلملم أذيال الفضيحة بأن تنخرط مؤمنة في اللعبة، وتُستبدل وردة، بمؤمنة سراً، ويُسجن من كشف الواقعة الأصلية، ليظل يردد إلى نهاية المسرحية «أين تكمن الحقيقة؟». لن تتوقف الحكاية عند هذه الإشارات إلى تواطؤ السلطة مع المؤسسة الدينية في حبك المؤامرات والدسائس والمكائد حفظاً لمصالحها، بل تنتقل الحكاية إلى مؤمنة التي تتحوّل عاهرةً باسم ألماسة، وتنضم إلى «كار» وردة التي كانت خادمة في بيت والد مؤمنة، ثم عشيقة سرّية للأب والابن، قبل أن تُطرد من البيت. تنطوي تحوّلات مؤمنة على دعوة إلى التمرد على تابوهات اجتماعية مغلّفة بزيف ذكوري تاريخي، وتمرينات على لحظة حرية مقموعة، ما يؤدي إلى مقتلها في نهاية النص، كأنّ وأد الحقيقة والحرية مطلبان تاريخيان للسلطة الفاسدة. قد يبدو تحوّل امرأة تنتمي إلى طبقة الأشراف إلى عاهرة، صاعقاً، لكن سعد الله ونوس، أرادها صرخة أنثوية لإماطة اللثام عن مجتمع يتلفّع بقيم الحشمة والنزاهة والإيمان بوصفها قشوراً لممارسات ينبغي أن تظهر إلى العلن. هكذا تُنزع الأقنعة عن شخصيات تتخبط بنزواتها، وإذ بها تتدثر بالعفن الذي ينخر دواخلها ومكبوتاتها الموروثة، فالمفتي يقع في هوى ألماسة، ونقيب الأشراف يطارده طيف والده، بأن يتطهر من أدران جسده، وكأن وردة وحدها من يعيش لحظة الحقيقة من دون زيف أو مراوغة.
في عروضه السابقة، لم ينج هذا النص من معوقات رقابية. قبل سنوات، أثار زوبعة من الاستياء لدى بعض «أشراف» حلب، ووصل الاحتجاج إلى إيقافه بعد عرض يتيم بتوقيع الفرنسي السوري وسام عربش، بذريعة أنه «مساس بالقيم والرموز الدينية». لعل في هذه الحادثة، إشارة أخرى إلى راهنية النص، رغم كلاسيكيته السردية، في تجاوزه الخطوط الحمر، ونبشه بثور الجسد المريض، وهو في أقصى حالات الاحتضار، الجسد الذي لم يغادر سرير القرن الـ 19. لعل هذا ما ألحّ عليه نص ونّوس الذي اقتحم مناطق شائكة، وأخذ بحراثتها وتقليب تربتها. تخاطب مؤمنة المفتي بقولها «أريد أن أقطع الأمراس الخشنة التي تحفر لحمي، وتقمع جسدي، ينبغي أن أتحلّل من وصاياكم». بهذه العبارة وعبارات أخرى تحذيرية تتسرّب إلى النص، يرفع ونوس وتيرة التمرّد والمواجهة، فاضحاً آليات السلطة والتاريخ ورسوخ اليقينيات، في مجتمع تجلله الأقنعة والطهرانية الزائفة والنفاق، فيلجأ إلى أشكال متعدّدة من الفرجة، تنطوي على تطلعات جديدة في مفهومه للمسرح الشعبي، عبر الرقص والغناء وتطعيم الفصحى بالعاميّة، فمسرح التغيير الذي بشّر به طويلاً في بياناته المسرحية، ظهر بمشية عرجاء، ولم يتمكّن من ترميم المسافة بين الخشبة والمتلقي العمومي، وها هو يضيف مداميك جديدة لعمارته المسرحية في توثيق الهزائم العربية بكافة أطيافها، فالهزيمة هنا تتجاوز السياسي إلى منظومة القيم الاجتماعية. من جهته، لم يبتعد سليمان البسّام عن الفضاءات الشكسبيرية التي اختبرها في عروضه السابقة. و«طقوس الإشارات والتحوّلات» ينتمي إلى المنطقة نفسها، ذلك أنّ ونوس أخضع مقولات شكسبيرية مثل الخيانة، والنفاق، ومكائد السياسة إلى مختبر مسرحي محلي، على خلفية الموروث الشعبي، لكن برؤية معاصرة، تضع في حسبانها الوقائع المستجدة لمعنى الطغيان من موقعٍ نقدي.

صحيفة الأخبار اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى