نوافذ

مُجرّد إصغاء

اليمامة كوسى

منذ عدة أيام، كنتُ في المشفى الوطني أجمع عيّنات لأحد الأبحاث العلمية التي نودّ إعدادها. كان عليّ إجراء مقابلة مدتها حوالي نصف ساعة مع كلّ مشارك حول مواضيع متنوعة تخصّ حياته وسلوكه ومدى تأثّر حالته النفسية بالأحداث من حوله. صحيح أنهم كانوا يسهبون في شرح التفاصيل ويأخذون وقتاَ في محاولة تذكّرها، إلا أنني وجدت نفسي أصغي إليهم بتركيز تامّ دون أن أكترث كم مضى من الوقت على بدء المقابلة.

كانت قلوبهم أشبه بتحفٍ أثرية مركونة في ركنٍ مهجور لم يُمسَح الغبار عنها منذ مدة طويلة. وجدتهم يلتمعون مع كلّ سؤال يلامس أعماق أرواحهم، سواء أكانَ ذاك السؤال يمنحهم ضحكة أم دمعة. وعلى الرغم من أنّ أعمارهم فوق الخمسين كشرط من شروط الاعتيان، إلا أنني وجدتُ في عيونهم جميعاً عيون ذلك الطفل الذي يرغب أنْ يسألهُ أحد كيف حاله أو ماذا فعل في المدرسة لينسج لهُ قصصاً وحكايات لطالما كانت حبيسةً في عقله لوقت طويل.

كنتُ أُنصت لمَا يقولون وأشعر بما لا يقولون، وكأنّ هناكَ جسرًا خفيًا بيننا تعبرُ عليه إيماءاتُ وجوههم وتحركاتُ أيديهم. كنتُ أشعرُ بأمواج المدّ والجزرِ التي تُحرّك أفكارهم تارةً للأمام وتارةً للخلف، كما لو أنّها رمالٌ بحريةٌ مترددة على أذيال شاطئٍ متخمٍ بالحنين. كنتُ أطمئنهم حينًا بأنّ ما يشعرون به طبيعيّ، وبأنّ هناك الكثير ممّن يشاركونهم إيّاه، وحينًا آخر كنتُ أقولُ لهم بأنّهم الأحسن حالاً والأكفأ في اختيار الإجابات من بين كلّ مَن قابلتهم. كانوا يبتسمون لي شاكرين، وكأنّني أخبرتهم بأنّهم امتلكوا مفاتيح العالم!

قالت لي إحدى المشاركات بعد أن سألتها إن كانت تريد أن تضيف شيئًا في نهاية المقابلة: “فيني ضيف إنّي حبيتك؟! حسّيت متل اللي إجيته هديّة من غامض علمه”. بعد أن خرجت، لم أستطع منع نفسي من التفكير بأنني خلال كلّ المقابلات التي أجريتها ذلك اليوم لم أفعل شيئًا سوى الإصغاء والتطمين وإضافة بعض المزحات الخفيفة هنا وهناك. كان الأمرُ بسيطًا للغاية، في حين كانت الأحداث التي رووها لي أعقد من ذلك بكثير. فكّرتُ أيضًا بأنّ عبارات امتنانهم ودعواتهم وكلماتهم اللطيفة التي بقيت ترنّ في أذني إلى حين عودتي كان لها أثر كبير في نفسي ومنعتني من الشعور بأكوام التعب التي يمكن أن يحملها المرء بعد يومٍ شاقّ.

تذكّرت قصة قصيرة رواها الكاتب فيكتور فرانكل في أحد كتبه الأروع على الإطلاق “الإنسان يبحث عن المعنى”. ذلك الكتاب جاء عصارة تجربته المريرة بعد نجاته من معسكرات الموت في ألمانيا. فرانكل لم يكن كاتبًا وحسب، بل أحد أهم الأطباء النفسيين الذين لمع نجمهم في القرن العشرين. ولهذا يمكنني القول بأن الكتاب يعتبر من الكتب الجيدة التي تغيّر اتجاهات الحياة وتفتّح مدارك المرء على آفاق واسعة لم يسبق له أن فكّر فيها سابقًا.

تقول القصة إنّ فرانكل وردهُ اتصال في منتصف الليل من امرأة تخبره بهدوء أنها على وشك الانتحار. تمسّك فرانكل عندها بالتواصل معها على الهاتف وتحدّث معها عن اكتئابها، ثم قدّم لها سببًا بعد سبب لمواصلة العيش. وبعد محاولات كثيرة وحوار طويل، وعدته المرأة أخيرًا بأنها لن تنهي حياتها، وأغلقت السماعة.

عندما التقيا لاحقًا، سألها فرانكل عن السبب الذي أقنعها بالاستمرار في العيش من بين الأسباب التي اقترحها عليها سابقًا. فقالت له: “لا أحد منهم”. أصرّ فرانكل على معرفة ما الذي أثّر عليها إذاً لتستمر في العيش. وقد كانت إجابتها البسيطة على سؤاله، بأنّ رغبة فرانكل في الاستماع إليها في منتصف الليل! وعبرت قائلة: إنّ العالم الذي يوجد فيه شخص ما على استعداد للاستماع إلى آلام الآخرين هو عالم يستحق أن تعيش فيه.

نعم أيها القاطنون في هذا العالم؛ قد لا تكون الحجج المحكمة أو الحلول المبهرة هي التي تصنع الفارق؛ لربما يكون الإصغاءُ البسيط هو أعظم ما يمكن أن يقدّمهُ الإنسان للإنسان في زمنٍ كثرت فيه الألسنة وقلّت الآذان.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى