
أعشق الأسئلة منذ الصّغر، تجذبني تلك الرنّة المميّزة التي تصنعها إشارة الاستفهام في نهاية الجملة، وتلك اللّمعة الفريدة التي تبرق في الحدقات المتّسعة، كما يأسرني ذلك التلهّف الفضولي المشاغب الذي يحاول إزالة الغطاء عن شيء مخفيٍّ في صندوقٍ مدفونٍ في الترابِ منذ مدّة.
قد لا تهمّني الأجوبة بحدّ ذاتها بقدر ما تهمّني تلك الدغدغة اللطيفة التي تجبر الأفكار على الضحك. اكتشفتُ ولا زلتُ أكتشف بأنّ ما يبقى في الذاكرة هو ما يستطيعُ أن يطبعَ بصمةً شعوريّة عليها. البصمات لا يمكن أن تزول إلّا إن بذلنا جهداً في ذلك. وحتّى إن مسحناها فنحنُ نشكّل بصماتٍ جديدة فوق المنديل الذي استخدمناه، وإنّ تلك البصمات ستُذكّرنا لا محالة بما فعلناه سابقاً كلّما رأينا منديلاً أو لمسناه!
أذكرُ أننا كنّا في آخر يوم من أيام امتحانات شهادة التعليم الأساسي عندما سألني أحدهم سؤالاً لا يزال صدى رنينهِ في مسمعي إلى الآن: ما هي أكثر ثلاثة أمور تكرهينها في الحياة؟
لم يحدّد ما الذي يقصده ب “أمور” لكنني أجبت دون أن أسأل عن تفاصيل زائدة: أكره أن أترك أملاً كبيراً في قلب أحدهم ولا أعود لأحقّقه سواء بإرادتي أم بدونها، كما أكره أن آمُل بتحقيق شيء ما بشدّة ولا أقدر على ذلك، وعلى سبيل المزاح ولأنني لا أحبّ أن أفكّر بالكراهية كثيراً قلتُ له بأنني أكره أن يسألني أحدهم ما هي أكثر ثلاثة أمور تكرهينها في الحياة:).
بدا لي الآن عندما فكّرتُ بتلك الإجابة بأنّ الخذلان هو أكثر ما أكرهه في هذه الحياة، سواء خذلان الآخرين أو خذلان نفسي.
خذلان الآخرين بالنسبة لي قد يكون في تقديم وعد لأحدهم بأن أزوره ولا أفعل، وقد يكون في شعوري بأنني لم أُصغِ إلى آخَر بما فيه الكفاية، أو أنني أطفأتُ لهفةَ أحد ما بمنحه شعوراً أو كلاماً ليس مكافئاً لمقدار تلك اللهفة. هذه الأمور البسيطة يمكن أن تشعرني بأنني أفعل أشدّ ما أكره ألا وهو “الخذلان”، فلا أعتقد بأنّ هناك داعٍ لشرح شدّة خوفي إذاً من خذلان أحدهم في أمور مصيريّة بالفعل!!
لذلك أنا لا أحبّ الوعود ولا أقطعها إلا عندما أعلم يقيناً تاماً بأنني سأكون قادرة على إيفائها. أمّا الوعود المجانيّة والمتطايرة هنا وهناك، حتى في أبسط أمور الحياة، فأنا لا أستطيع أن أقدّمها لأيّ كان.
وأمّا عن خذلان الذات؛ فللحقيقة لم أجرّبه، لكنني لا أريد ذلك أيضاً. ولهذا السبب عندما أقوم بأي أمر في حياتي لا أتأمّل أو أتوقّع منهُ الكثير مهما بدا جذّاباً أو وشيكاً أو مُحقّقاً لا محالة. أقوم بما أرى بأنّه عليّ القيام به وأترك الأمل بتحقيقه جانباً. تلك القاعدة بإمكانها أن تجنّب المرء معارك طاحنة، من ضمن نهاياتها الأكثر تراجيديّة على الإطلاق؛ انكساره في عين نفسه!
وأمّا عن أصعب أنواع الخذلان فلن أقول بأنّه الخذلان من الأحبّة، ذاك الذي تشرحهُ مقولة شكسبير الشهيرة “حتى أنت يا بروتوس!”، فأنا لا أجد بأنّ على الإنسان العاقل أن يعطي الجميع فرصة خذلانه، إنّ الخذلان وما يترتب على تلك الكلمة من أسىً وألم ومعاناة عليها بالتأكيد أن تكون من قِبَل مَن منحهم المرء ثقتهُ الكاملة، وإلّا فإنْ اعتبرَ انهيار ثقته بأيّ شخص من حوله خذلاناً سيكون عليه أن يوزّع القليل من خذلاناته على مَن حوله، لأنّها بلا ريب ستفيض من الكثرة!
النوع الأصعب من الخذلان في نظري هو أن يجتمع النوعان اللذين ذكرتهما معاً، هناك أشخاص في حياة المرء يكون خذلانهم من خذلان النّفس، إنْ هو خذلهم يكونُ قد خذل نفسه. لا أستطيع أن أتخيّل أنني أخذل أولئك الأشخاص حتى على حساب نفسي، ولا أشعر بأنّ هناك شيء في هذا العالم يمكنه أن يجعلني أفعل ذلك مهما كان.
كنتُ أعتبر أنّ تلك الكلمات التي قلتها وأنا في الخامسة عشرة مجرّد إجابة عابرة على سؤال وُجِّه إليّ بغتةً ولم يكن قد خطر في بالي من قبل، لكنني الآن أفهم كم أنّ تلك الكلمات تمثّل جزءاً منّي ومن شخصيّتي التي لا زلتُ أقعُ في دهشةِ أجوبتها وسط زحامِ أسئلةٍ لا تنتهي.
نحن لا نعرف أنفسنا بالقدر الذي نعتقد بأننا نفعل ذلك، أحياناً نفهمها أقلّ مما نعتقد بكثير، وأحياناً أخرى نفهمها أكثر بكثير ممّا نعتقد. لكننا في كلتا الحالتين لا نكتشف ذلك إلّا بعد زمن.
نعم لقد أثبتت لي الأيام بأنّ ما نعتبرهُ ضرباً من العشوائيّة في أقوالنا وأفعالنا وفي كلّ ما يمكن أن نسميه مسودّةً لسلوكيّاتنا ليس بتلك العشوائيّة التي نفكّر فيها. إنّ المسودّات رغم فوضاها وخربشاتها وانثناءاتها قد تكون صادقة وحقيقيّة أكثر من النسخة المصقولة النهائيّة. وهنا يمكنني أن أقول بأنّ هناك لحظات في حياتي جعلتني أنزع تلك ال”قد” من العبارة السابقة وأؤمن بأنّ مسودةً ما نكتبها دون اكتراث ونحن على عجلةٍ من أمرنا؛ هي حقيقتنا الأكثر صدقاً!
أمّا سؤال: هل نحنُ من نرتّب فوضى غُرَفنا بالشكل الذي يجعلنا نراها تبدو مرتّبة في أعيينا لاحقاً.. أم أنّ فوضانا – التي نحنُ مَن أطلقنا عليها ذلك الاسم- مرتّبةٌ بشكلٍ غير ملحوظ منذ البداية؟!
إنّ ذلك السؤال هو أحد الأسئلة التي لا زلتُ أغيّرُ إجاباتي عليها بين موقفٍ وآخر من دون أن أعرف ما هي الإجابة الصحيحة – أو ربما الأصحّ- في سلّم التصحيح الخاص بذلك القسم المعقّد من مواد الحياة البشريّة!
بوابة الشرق الأوسط الجديدة