
يقول الفيلسوف الفرنسي برجسون: أدرك أتذكر.
من هذه المقولة ينطلق الكاتب رضا أسعد في مجموعته الرشيقة لا مناصب في الحب الصادرة عن دار بعل في سورية، وهو بذلك يبني خيمة الفرح والعزاء في كل ذكرى تصادفه في معترك الحياة التي قادته من طرطوس الريفية حيث يبعد البحر عن منزله مئات الأمتار، بينما اتخذت والدته من الشرفة مجلساً دائماً لها تدعو الجارات اللاتي يمررن بالقرب منها ليحتسين القهوة ويتبادلن الأحاديث حول البلد الذي عرف فيه الكاتب ألا يسحب الكرسي خشية أن يسبب الإزعاج لأحد الجيران الذي قد يكون مريضاً، وتعلم فيه أن يأكل من كعكة عيد الميلاد احتفاءً مع جيرانه من المسيحيين، وألا يقطف الفاكهة من حديقة جارهم اليهودي في أيام السبت احتراماً لشعائرهم، هكذا علمته والدته التي لم تدرس في أي أكاديمية وإنما تربت على حب الطبيعة والناس والخير
في دمشق حيث تبدأ الحياة وتنغرس في جدار منزله مسماراً اسمه الحب، ( قصة المسمار) ويحمل إرث المحبة هذه إلى واشنطن حيث يبني عالماً من مجموعة من المغتربين وهم يغنون حول مائدة الذكريات( يا مال الشام يا الله يا مالي)، فتدمع العيون لإرث المحبة التي حملها بين جوانحه( قصة الميراث والورثة(
وفي قصصه ، رضا أسعد موجات من الأسى والاكتئاب الذي يعقبه الفرح( قصة مضمار العيون…) وهو يجد نفسه أمام اتصال هاتفي كله خوف من ابنته وهي في حمام المدرسة فيطلب منها أن تنظر في المرأة أن تحدث نفسها، لتصبح هذه اللحظات ذكريات ترافق الجميع في مسار حياتهم
يرى الكاتب رضا أسعد أن الحب كأبواب دمشق السبعة المعتقة بحب التاريخ ، فمن خلاله قام بتذويب عشب الكراهية الطفيلي الذي راح ينمو بين قلبي عاشقين نتيجة نميمة كاذبة دسها حاقد لتفريقهما، لكن هذا المارد الذي جاء بسيارة بلا سائق، ومن خلال ولعه بفن الطبخ لأصدقائه( قصة تغذية الأدمغة) ، ومن خلال قراءة الحكمة في اللوحة الصامتة التي يحركها الإحساس بالخطوط وبالتفاصيل( قصة البصر والبصيرة)،استطاع أن ينفذ ببلاغة البساطة التي يمتلكها( قصة من كثر الحب والفرح) وعلى مراحل عدو أن يصفو قلب العاشقين ويعودا إلى سابق عهدهما.
نادية الزوجة والحبيبة والرفيقة وقصة الإلهام الخفي الذي كان يتسرب من خلال بعض العبارات فيذكرها عامداً وليس سهواً ربما ليرضي النزعة الأنثوية التي زرعها الله تعالى في نفس المرأة، فبنى مجتمعه الصغير في بلاد المغترب( واشنطن) وحتى جارته الأمريكية إيزابيل ( القصة 27) تعلّم منها سر السعادة على الرغم من أنها تجاوزت المئة عام ، وعندما أراد أن يرفع مستوى الجدار الفاصل بين منزليهما، حزنت لذلك فثلاثة عقود ليست سهلة ، طفترك مكاناً تستطيع زوجته وإيزابيل التواصل معا.
في قصة ( دربكة وضحك….) كانت لغة السرد بطريقة الخطف خلفاً لغة روائية خالصة وهو يستعرض حكاية وقعت مع الشاعر الطبيب وجيه البارودي الذي اُستدعي ذات ليلة في حماة ليولد امرأة وهي في حالة خوف وهلع شديدين، فما كان منه إلا أن راح يدربك ويشارك الموجودين الضحك لتتم الولادة بيسر.
هذه اللغة على الرغم من بساطتها، بيد أنها تنطلق من عمق ثقافي ومعرفي اعتاد التواضع، فأخرج تلك القصة بفنية تكاد تكون مبنية على عبقرية وحكمة قلما نجدها عند الكتّاب المغتربين إلا من اكتوى بالحب والحنين والألم معا.
الفلسفة في (قصة أحلام توقظنا وأحلام نستيقظ من أجلها)، ربما تأثر الكاتب رضا أسعد بثقافة الغرب واطلاعه على كثير من كتب الفلاسفة ( سغموند فرويد) ، قد جعلت منه محللاً نفسياً لما يعانيه في الواقع ، ولاسيما أنه قد عانى هذا الأمر في حلمه بزوجته حيث تسلل اللص إلى منزله كي يسرق محتوياته ويحاول طعنها، فينهض مذعوراً بينما هي تعود إلى نومها وهو يحاصره القلق ، فيباغته هاتف لابنته التي عانت هواجس وكوابيس مرعبة ، نحن نستيقظ للأحلام التي نريدها أما غيرها فلا جسّد ذلك أيضاً في (قصة شجرة العائلة) وكيف تبنيها الأفكار في الغرب( جامعة ماساتشوستس وهارفارد) كذلك مقارنتها مع شجرة العائلة العربية ولاسيما السورية، والأمر ذاته في (قصة إنه البحر) وهو يصف رحلة إيكري فايكنغ الذي أرسل رسالة في قارورة زجاجيه، لتصل بعد سنتين إلى باولينا الصقلية، لتبدأ بينهما قصة حب تكللت بالزواج.
لم يتحدث الكاتب عن الحب العادي بل تناول حب القصص التاريخي كما في قصص( المغترب، الأرض، ماذا لوكان، القلم والقرطاس، الشموع، قلب في غير موطنه، كلبي الصغير، صفعة يد….) قصة الحب بين أموري وسومرية وأغنية هذا الحب الخالد( تخلدت بأغنية شعبية هالأسمر اللون هالأسمراني(.
حوادث الواقع هي ثمار يقتطفها الكاتب رضا أسعد ليصنع منها مائدة قصصية سريعة مفعمة بالأمل والحكمة(كما في قصة العميان) ، فهو يرى في بصيرته قبل البصر، وكما في قصة تلميذ ، تلميذه الذي قال له ذات مرة إن والدي تلميذك سابقاً يحبك، وأنا أحبك، ولكنني أريد أن يحبك أولادي عندما أكبر وأتزوج، لكنك أصبحت في الرابعة والسبعين فقد لا تعيش بضع سنوات ،هزّته هذه العبارة بشكل عجيب.
لعل قصة لا مناصب في الحب لخّصت كل المعاني والرسائل التي أراد الكاتب رضا أسعد أن يصهرها في بوتقة واحدة، وهي عنوان المجموعة ، وأجمل ما ذكره من عبارات ، فقال بعبارات ستكون خالدة بروح الكاتب الثري المعاني، العميق الثقافة ،( فالحب كالولادة والموت يتساوى فيه أحباء السماء والأرض / طيوراً ونباتات، وحيوانات، وبشرا.
فعندما يصغي لتلاميذه كمعلم للغة العربية فإنه يعيش الشعور ذاته مع ابن الأمير أو الوزير أو صاحب الفخامة على اختلاف أصولهم وألوانهم، فيكون طفلاً مع الأطفال ومستمعاً لشكاوى المراهقين، يتعلمون من الحب والكبرياء، ورفيقاً للكبار منهم، عندها ندرك عمق مقولته لا مناصب للحب. لربما كان للفرات نصيب من الإنصات للمعاني، وأنا أكتب هذه الكلمات.
الرقة 18/5/2025
*محامي وروائي وناشر
بوابة الشرق الأوسط الجديدة