أحوال الدنيا

تأملات في استمرار “النهار” والبحث عن الحرية

د. فؤاد شربجي

في الأسبوع الماضي انتهت قمة الإعلام العربي التي يقيمها نادي الصحافة في دبي كل عام. وكانت جريدة النهار اللبنانية نجم القمة بتجربتها ونهجها ورسالتها. وكان نجم النهار استمرارها لأكثر من 92 سنة. وسر هذا الاستمرار كان جوهر الاهتمام في قمة الإعلام العربي. فكيف استمرت جريدة كالنهار في بلد صغير كلبنان لتسعة عقود؟؟ وكيف تستمر هذه الجريدة بالصعود والتألق والتوسع والانتشار؟؟ تلك أسئلة مفتاحية لكل من يؤمن بأن الإعلام أحد روافع نهوض الشعب في تقدمه وحداثته وفي الارتقاء ببناء مجتمعه..

‏بنيت النهار لتكون رسالة تنقل الحقيقة، باستقلالية وحرية، وبكفاءة مهنية عالية، وبموضوعية منفتحة على الحوار، وبعقلية متنوعة مفتوحة النوافذ على العالم وأحداثه وأفكاره.

وعمد بناة ومدراء النهار لجعلها متسعا لكل الاتجاهات السياسية والفكرية. طالما تمسك المحرر باعتماد الحقيقة والبحث عنها ونشرها. وكانت النهار مجالا رحبا لليميني واليساري. للقومي العربي وللقومي السوري. للمؤمن بالفينيقية وللمتمسك بالأمة الإسلامية.

كانت بيئة لكل الاتجاهات بشرط اعتماد الحقيقة والاستقلالية في التحرير وصياغة الرأي. طبعا لم تخل مسيرتها من مطبات أو صعوبات أو أخطاء. لكن الحرص على الرسالة والاستمرار أتاح معالجة كل خلل، وإصلاح كل أنحراف.

وتوارث هذا النهج في تقديم الرسالة من توارثوا النهار متسلحين بالعلم والكفاءة والاستقلالية والحرية. غسان تويني المعلم ورث الجريدة عن والده جبران. لكنه لم يستلمها إلا بعد تخرجه من هارفارد. وجبران استلم الجريدة بوجود والده غسان بعد تخرجه أيضا من أكبر الجامعات العالمية. وها هي نايلة ترث والدها الشهيد جبران وهي متسلحة بعلم وأصرار وعزم على الارتقاء والتقدم في إنجاز رسالة النهار وفق أحدث التقنيات لتكون الحقيقة مؤثرة أكثر، وليكون المحتوى فاعلاً أعمق. وليكون الاستمرار بالارتقاء هوية هذه التجربة المميزة.

كم نحتاج إلى تبني مثل هذه التجارب الإعلامية ونحن نتخبط بأداء ارتجالي غشيم، عنيد ومتكبر، من مدراء سلاطين. واتباع إيديولوجيين يضيعون الكفاءات المتوفرة، ويهدرون طاقات المجتمع. ولهذا أيضا تصبح النهار حكما وقاضيا ومعيارا وقانونا لمحاسبة إعلام التطبيل الأجوف، والتزوير الأهبل، والتبشير بجنات حكام مماليك ومملوكين.

والنهار تفضح وتعرى كل هذه البلايا، وهي تستمر بإضاءة الحياة بنور الحقيقة. وتستمر في فعل البناء بشحنة التطلع للمستقبل. إنها إعلام مستمر ومضيء وشاحن للحياة والبناء. لذلك اسمها على فعلها النهار.

‏استمرار النهار ضمنه إضافة للحرية والاستقلالية، والانفتاح على التطور والحداثة وبناء شراكات مقوية. وبعد أن باتت غرفة اخبارها مدعمة بالذكاء الاصطناعي منذ عام. وبعد قرارها الاحتفاظ بإصدارها الورقي ودعمه بكل فنون الحداثة التكنولوجية، ها هي اليوم نايله تويني (رئيسة مجلس الإدارة) تعلن عن انتقال النهار من كونها (نيوز بيبر) لتصبح (فيوز بيبر). وبدل تغطية الحدث بالخبر عنه صار الإعلام عن الحدث عبر تقديم “المشهد” الكلي له. وهذا مهني منهجي ويضيف إلى الإصدار الورقي الصورة المؤثرة، والفيديو الناقل، والپودكاست المناقش. ويضيف أيضا التواصل عبر وسائل الاتصال المختلفة. ويطلق النقاش مع المتلقي للاستفادة من كل الآراء.

انه المشهد كاملا بكل تفاصيل الحدث واتجاهاته وزواياه، وبكل تفاسيره وأبعاده وأعماقه وخفاياه. هذا سر شباب النهار رغم بلوغها 90. وتجربة النهار كإعلام حي ممكنة ومتاحة لكل الآخرين، ولا تحتاج إلى الاصرار على الكفاءة، والإلحاح على الحرية وعلى بيئة تترك ولو منفذ لحرية تقديم الحقيقة باستقلالية. التجربة ممكنة للجميع.

‏من قمة الإعلام العربي في دبي أعلنت صاحبه النهار نائلة تويني توسع تغطيتها وإنجازها لتصبح عربية بشكل شامل. ولتعطي للعرب والعروبة صوتا مستقلا يحافظ على الحرية والاستقلال. وهو يبث رسالته الحضارية لتحسين حياة الإنسان والمجتمع والهوية والحاضر والمستقبل. وإذا كان اهتمام وانشغال أعمال القمة بالتكنولوجيا وضرورة اكتساب الإعلام والإعلاميين لمهاراتها. إذا كان الاهتمام بالتكنولوجيا شغل القمة عن أولوية الحرية للإعلام والإعلاميين، فإن النهار جاءت بحضورها في القمة، واحتفال الجميع بنهجها واستمرارها ورسالتها. جاءت رسالة حرية تعلن أن لا أعلام ولا تكنولوجيا ولا حداثة ولا إمكانية لقول الحقيقة بدون حرية. الحرية أولا.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى