الغيب والتوكل بين البناء الروحي والهيمنة السلطوية| قراءة في الدين والسلطة والضمير المعاصر
ماهر عصام المملوك

في لحظات القلق البشري الوجودي، حيث تضيق الأرض بما رحبت وتتشعب الأسئلة عن المصير والعدالة والمعنى، يلوذ الإنسان بالدين، لا كحزمة طقوس فحسب، بل كمأوى للطمأنينة وسند غيبي يعيد ترتيب الفوضى. ويُعد “الغيب” أحد أكثر مكونات الخطاب الديني عمقًا وتأثيرًا في تشكيل الضمير والسلوك، إذ يتجاوز المدركات الحسية ليربط الفرد بما وراء الظاهر، ويوفر له أفقًا تتلاقى فيه المعاني الكبرى: العدل، الجزاء، الرحمة، والغاية.
لكن بين طمأنينة الغيب كإيمان فردي، وخطورته كأداة في يد السلطة، يتأرجح الإنسان بين الرجاء والخوف، بين التوكل والتواكل، بين الإيمان بالقدر والخضوع للطغيان، مما يستدعي مساءلة جدّية حول وظيفة الغيب في الخطاب الديني، وكيف تحوّل – في كثير من التجارب التاريخية والمعاصرة – من مساحة تحرر إلى وسيلة إخضاع.
فمنذ اللحظة التي قدّم فيها القرآن “الإيمان بالغيب” كأول صفة للمؤمنين، بدا جليًا أن العلاقة بين الإنسان والدين لا تُبنى فقط على المعرفة أو التجربة، بل على الثقة بما لا يُرى، واليقين بما لم يأتِ بعد. الإيمان بالغيب ليس انسحابًا من الواقع، بل غرسٌ للضمير في تربة أوسع من اللحظة الآنية. الجنة والنار، الحساب والجزاء، الملائكة والقدر… كلّها ليست موضوعات تزيينية للعقيدة، بل أدوات تربوية لبناء الإنسان من الداخل، ليكون مسؤولًا في الغيب كما هو في الحضور، نزيهًا في الخفاء كما هو في العلن.
فالغيب، حين يُفهم بوصفه وعدًا بالعدل الإلهي، يتحوّل إلى ضمانة ضد الظلم البشري. إنه يُربّي في الإنسان حسًا بالمآل، ويمكّنه من مواجهة قسوة الواقع بثبات، ومن رفض التواطؤ مع الفساد خوفًا من مساءلة أعلى من أي سلطة بشرية.
وبين التوكل والتواكل هناك خلل في التلقي لا في المبدأ، ولعلّ التوكل على الله هو أحد المظاهر التطبيقية الكبرى للإيمان بالغيب. لكنه مفهومٌ التبس كثيرًا في الوعي الجمعي، حتى اختلط فيه معنى الاعتماد على الله بمعنى الانسحاب من الفعل.
فالتوكل، في أصله، لا يُقصي العمل بل يباركه؛ لا يُلغِي التخطيط بل يؤسّسه على التوازن بين الجهد والثقة.
غير أن الخطاب الديني، حين يُفصَل عن مقاصده العُليا، يتحوّل إلى تبرير للكسل، أو حجابٍ لستر العجز. وقد استُخدم هذا الخلل في غير قليل من الحالات من قبل سلطات سياسية لترسيخ ثقافة الخنوع، بحيث تُقدَّم الطاعة للحاكم جزءًا من “الرضا بالقضاء”، ويُصوَّر الاعتراض على الظلم كتمرُّد على القدَر.
إنّ خطر هذا الانحراف ليس دينيًا فقط، بل حضاري أيضًا، لأنه يُنتج مجتمعًا متواكلًا، يخشى السؤال، ويخضع بدافع روحي مشوَّه، ويتنازل عن حقه في التغيير باسم الإيمان بالغيب.
في حقيقة الغيب بين رجال الدين والسلطة والتي تحولت من التربية إلى السيطرة في الكثير من مراحل التاريخ الإسلامي والمسيحي على حد سواء، وتحوّل الغيب إلى مجالٍ محتكر، تُفسّره طبقة من الكهنة أو العلماء، وتستخدمه لتكريس سلطتها المعنوية. ومع غياب التفكير النقدي، وأصبح “العالم” أو “الشيخ” أو “القس” هو المتحدّث الحصري باسم الغيب، وشيئًا فشيئًا، أُقصي العقل، واحتُكر التأويل، وتحوّل الدين إلى أداة سيطرة لا دعوة للتحرر.
هذا التوظيف للغيب برز بشدة في أزمنة الأزمات السياسية، حيث احتاجت السلطات إلى شرعنة قمعها واستغلال الدين لضبط الناس. فحين يتحدّث الحاكم باسم “الإرادة الإلهية”، وتُقدَّم قراراته كقَدَر لا مفر منه، يغدو الغيب قيدًا جديدًا على العقل والضمير.
وقد ترافق ذلك مع خطاب ديني يُركّز على الوعيد أكثر من الوعد، وعلى النار أكثر من الجنة، وعلى الطاعة العمياء أكثر من المحاسبة، حتى صار الغيب كابوسًا نفسيًا، يُطارِد الناس في يقظتهم ومنامهم، لا باعثًا على الرجاء، بل أداةً لتأبيد الخوف.
فبين الجنة كسكينة روحية والجنة كذريعة للصدام في عصر العنف الديني، برز توظيف آخر للغيب فبدل أن تكون الجنة مقصدًا للساعين إلى الخير والعدل، صارت وعدًا سياسيًا يُمنَح لمن يُشارك في مشاريع صراعية، وأداة تحفيز للموت لا الحياة.
وتحوّل الإيمان بالجزاء الأخروي من محفّز على الصبر والعمل، إلى تعويض رمزي عن غياب العدالة في الدنيا، ومن ثم، صار الغيب أداةَ تجنيد وتعبئة.
تلك اللحظة حين تُصبح الجنة مشهدًا تعبويًا بدل أن تكون أفقًا رحيمًا تُمثّل قطيعة بين مقاصد الوحي واستعمالاته البشرية. ويصبح الغيب، لا موئلًا للمستضعفين، بل أداة لتبرير الصدام والدم.
ففي عالم يتّجه نحو الشفافية والمساءلة، لا يمكن الاستمرار في طرح الغيب كوسيلة للهروب من المسؤولية أو كذريعة لإسكات الصوت النقدي. فالمجتمعات الحديثة لا ترفض الغيب كمكوّن إيماني، لكنها ترفض استخدامه كسلاح سلطوي.
ما تحتاجه الخطابات الدينية المعاصرة هو إعادة موضعة الغيب ضمن مشروع أخلاقي، يُنير الإنسان ولا يُطفئه، يوقظ فيه الأمل لا الرهبة، يدفعه للعمل لا الانتظار. غيبٌ يعزز الإحساس بالكرامة، لا بالخوف؛ ويُجذّر الإيمان بالتغيير، لا بالجمود.
وفي خلاصة وختام القول نحو خطاب راشد في زمن المأزق فإنّ الغيب، في أعمق تجلياته، ليس مساحة تهديد، بل دعوة للسكينة والرجاء. وليس الإيمان به نقيضًا للعقل، بل شريكًا له في مواجهة أسئلة الوجود. لكن الغيب، حين يُؤدلج ويُحتكر، يصبح أداة إخضاع بدل أن يكون أفقًا للحرية.
من هنا، فإن المعركة اليوم ليست مع الغيب ذاته، بل مع استخدامه، مع من يزعم امتلاكه، ومع من يجعل منه أداة سياسية أو اجتماعية لإنتاج الطاعة أو تبرير العجز.
نحن بحاجة إلى خطاب ديني يُعيد الغيب إلى موقعه الأصلي: وعدٌ بالعدل، باعثٌ على الأمل، محرّكٌ للمسؤولية. غيبٌ يُربّي الإنسان على الثقة، لا على التبعية، وعلى التوكل، لا التواكل. وبهذا وحده، يمكن للدين أن يظلّ حارسًا للكرامة، لا أداةً لإنتاج الخوف.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة