نوافذ

ضحايا أم ناجُوْن

اليمامة كوسى

كلّما أرّقتني التأمّلات في طبيعة البشر وسلوكيّاتهم المختلفة أجد نفسي أُخرِجُ من أحد جيوب ذاكرتي ذلك اليوم الشتويّ الهادئ الذي كنتُ أجلسُ فيه على أحد المقاعد الأولى في القاعة الدرسيّة وأنا أنصتُ باندهاش لما يشرحه الأستاذ على اللوح بعد أن كتب عنواناً عريضاً في المنتصف: “النظريّة النسبيّة”.

كنت أفكّر حينها بأنّ ذلك الدرس هو أجمل دروس الفيزياء التي مرّت عليّ على الإطلاق. ورغم أنّ في جملتي الأخيرة ما يتنافى مع المبدأ الأساسي للنظريّة إذ لا وجود لحقيقة واحدة مطلقة في هذا الكون إلا أنّني أجد في تلك الجملة ما يعزّز تلك النظريّة أيضاً، وذلك من خلال إمكانيّة إسقاطها حتى على أبسط أقوالنا؛ فما كان – بالنسبة لي- أجمل وأمتع دروس الفيزياء قد يكون – بالنسبة لغيري- أكثرها بشاعةً وإحداثاً للملل!

لا زلتُ عند رأيي بذلك الدرس حتى الآن، والسبب في ذلك ليس أنني كثيراً ما أتمسّكُ بآرائي، بل لأنّني أشعر بأنّ الحياة تجعلني أعود إلى تلك النظريّة مراراً وتكراراً مع كلّ لحظةِ تأمّلٍ أنظرُ فيها إلى كلّ ما يجري حولي!

أفكّر بأنّه على غرار اختلاف القوانين الفيزيائية اعتماداً على حالة المُراقِب وموقعه وسرعته؛ فإنّ الواقع أيضاً هو مسألةُ وجهة نظر تختلف باختلاف زاوية رؤية صاحبها. فكلّ منّا يحمل تصوّراته الخاصة عن نفسه وعن العالم من حوله، سواء أكانت تلك التصوّرات من نتاجه الخاص أم نتاجاً مُستعاراً من الغير بحكم التأثّر بالبيئة والظروف.

ما قد يبدو حقيقة لأحدنا؛ قد يكون سراباً لآخر. وما قد نراه شرّاً خالصاً؛ قد يكون الخير بأبهى صوره بالنسبة لغيرنا. وفي الوقت الذي يمكنني أن آتي بأمثلة على ذلك حتى الصباح سأكتفي بمثال واحد فقط، وسأسميه مثال الباب المغلق.

ففي حين يجد البعض بأنّ طرقهم لبابٍ ما وإغلاقه في وجههم بقسوة هو تجربة سيّئة قد تُرديهم أرضًا وتبقيهم في مكانهم طيلة حياتهم؛ يجد آخرون بأنّها تجربة جيّدة تشعرهم بالشجاعة وتمنحتهم فرصة النهوض من جديد والتعرّف إلى نوع آخر من القوّة؛ قوّة أكبر من قوّة امتلاك مفاتيح جميع الأبواب التي نرغب بفتحها؛ إنّها قوّة أن نبحث عن أبواب جديدة بعد كلّ باب يغلق في وجوهنا!

إن بقينا نبكي على عتبةِ ذلك الباب وأوقفنا ساعاتنا عند لحظة إغلاقه كما لو أنّه الباب الوحيد الذي يمكن أن نجده في حياتنا، فنحنُ بذلك نظلم أعيننا ظلماً ما بعده ظلم!

فلننظر حولنا؛ أبواب كثيرة تنتظر أن نراها، أن نسير إليها وأن نمنح أيدينا أحقيّتها في الطرق عليها دون أن نخاف من فكرة أنها قد لا تُفتَح.

تقولُون لي بأنّ العيون مُتعبة ومشوّشة، والرؤوس مجمّدة بذات الوضعية ولا مجال لتحريكها لكي ترى الأمور من زوايا مختلفة؛ أنا أسمعكم وأفهمكم جيّداً لذا سأُدلي بنصيحةٍ هنا، ولكم حريّة العمل بها: إن رأى أحدكم لدى شخص ما مِن حوله عينين برّاقتين تَشِيان بالجمال والشجاعة والقوّة؛ فليستعرهما منه، لا تقولوا لي لا يستطيع، فنحنُ نستعير أشياءَ كثيرة بلا نفع ممّن حولنا، فما الضّيرُ في أن نستعير شيئاً يفيدنا هذه المرّة؟!

فليستعرهما ولينظر إلى نفسه وإلى العالم عبرهما وسيُدرك عندها بأنّنا نستطيع أن نُعيد تشكيل الواقع إن أعدنا تشكيل نظرتنا إليه.

إن فَهِمنا من النسبيّة بأنّ  كلّ شيء في الحياة نسبي فيمكننا أن نفهم أيضاً بأنّ سبيل تغييرنا لما نراه في هذه الحياة يكمن في تغييرنا للزاوية التي نراه من خلالها. بإمكاننا أن نرى الخيوط المتشابكة التي صنعناها حول أنفسنا كما لو أنها شبكة عنكبوت مقيتة سنظلّ عالقين فيها إلى الأبد، وبإمكاننا أيضاً – على النقيض- أن نراها كخيوط لشرنقة لا بد أن تُنسج حولنا لكي ننمو وننضج ونصبح قادرين على التحليق كفرَاشات.

لنخترْ إذاً ما نريد أن نراه، ولنسرد قصصنا كناجين لا كضحايا.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى