تقريب المذاهب… سماحة الماضي وتعصب الحاضر (خالد محمد عبده)
خالد محمد عبده*
أصبح التقريب تهمة ومحل تشكيك يصيب العامل في مسيرته أو المتبني له حلًاًّ لرأب صدع الانشقاق بين أبناء الدين الواحد؛ ولم يقتصر ذلك على الاتجاه السلفيّ المحدث، بل تعدّاه ذلك إلى المؤسسات الدينيّة التي تُعدّ وسطيّة كالأزهر، ففي جلسة يوم الأحد 29 جمادى الآخرة 1433 هـ الموافق 20 مايو 2012 أصدر الأزهر بيانًا عاجلاً بخصوص المدّ الشيعيّ والحسينيّات جاء فيه: "يجب على الإعلام أن يقوم بدوره في تبيين خطر المدّ الشيعيّ في مصر". وقد زعم الداعية المصريّ محمّد حسّان الذي تلا البيان من مشيخة الأزهر تحقّق إجماع العلماء حول قراراتهم بشأن المدّ الشيعيّ في مصر والحسينيّات.
بل إنّه ناشد الإعلام المصريّ أن يقوم بدوره في تبيين هذا الخطر الشيعيّ وتوعية المصريّين ضدّ زندقة "من يسبّون الصحابة"، مردّدًا عبارات من قبيل: إنّنا نتقرّب إلى الله ببغض من يبغضون الصّحابة، كما نتقرّب إلى الله بحبّ آل البيت! متناسيًا بذلك جهود "جماعة التقريب بين المذاهب"، التي بدأت مع أربعينيّات القرن العشرين في مصر مرکّزة جهودها علی مذاهب السنّة والشيعة الإماميّة بوجه خاصّ، معتبرًا أنّ الشيعة كفّارًا، "باتّفاق العلماء" على حدّ قوله، ويرى أنّ جهود علماء التقريب الأكابر هي من باب (التقيّة) ولم يعد لها مجالٌ الآن في عصر الفضائيّات "الإسلاميّة."
مجلة الأزهر ومحو مسيرة دار التقريب
لم يتوقف الأمر عند هذا البيان والتصريح الخاص بالحسينيّات الشيعيّة في مصر، بل أخذت المسألة بعدًا مبالغًا فيه بطباعة كتب قديمة وعمل ملفات خاصة للتحذير من الشيعة وللتنبيه على خطورتهم ودورهم في إفساد الدين! فقد خصّص الدكتور محمد عمارة المفكر الإسلاميّ ورئيس تحرير مجلة الأزهر ثلاثة من الكتب والملفات لأجل هذا الغرض، وهو تحوّل في الموقف يخالف كتاباته السّابقة.
وإذا كانت هذه (الألغام الفكريّة – التكفيريّة)، التي تتغذی بها وعليها عقول قطاعات من العلماء في بعض الحوزات العلميّة، وفی بعض الدوائر الفكريّة السنيّة. كما تتغذی عليها نزعات التعصب عند العامّة. إذا كانت هذه (الألغام) قد غدت راسخة، بل "متكلسة"! فإن الموقف الممكن والعمليّ إزاءها يمكن تصوّره في ما يلي:
1- تحديد نطاق هذه الألغام الفكريّة – التكفيريّة، وأغلبها – لحسن الحظ – نابع من نقل القضايا الخلافيّة من نطاق أصول الاعتقاد، وتحويلها – من ثمّ – إلی عوامل لنفي المخالفين وتكفيرهم.
2- اعتماد منهاج التدرّج وسنّته في تطبیق خطة إزالة هذه الألغام من الكتب التراثيّة، وخاصة الذي يُدرس منها في الحوزات العلميّة والجامعات الإسلاميّة، وذلك بحذفها من الطبعات الجديدة لكتب التراث هذه وفق المنهاج المتعارف عليه في (تهذيب) كتب التراث.
3- الاتفاق – في إطار حرکة التقريب بين المذاهب الإسلاميّة – علی منع تدريس هذه (الاجتهادات التكفيريّة) في الحوزات والجامعات الإسلاميّة التی تكوّن عقول العلماء في مختلف بلاد الإسلام. ولنا فی منهاج الأزهر الشريف النموذج والقدوة فی هذا الميدان، فهو يحتضن کل مذاهب الأمّة – الفقهيّة والكلاميّة – سلفها وخلفها علی حدّ سواء، مع استبعاد التكفير والتفسيق لأيّ مذهب من المذاهب أو فرقة من الفرق الإسلاميّة، حفاظًا علی وحدة الأمّة، التي هي فريضة إلهيّة، تعلو فوق اجتهادات المجتهدين ومذاهب المتمذهبين.
إن وحدة الأمّة الإسلاميّة فريضة دينيّة وضرورة حياتية. لكن الشيعة الذين يدعون نفرًا من أهل السنة إلى مؤتمرات الوحدة قد أخرجوا جميع أهل السنة منذ عصر الخلافة الراشدة وإلى يوم الدين من أمة الإسلام ودين الإسلام! فهل هناك – مع هذه العقيدة الشيعيّة المعلنة – مصداقيّة لدعوة الوحدة أو التقريب؟!
دار الإفتاء المصريّة والتقريب
تطوّر الموقف من التقريب في المؤسسات الدينيّة في مصر كافة ففي التاسع من أكتوبر 2012 نشرت جريدة "الشروق" المصريّة و"الوطن" تحذير فضيلة الشيخ علي جمعة مفتي الديار المصريّة من نشر المذهب الشيعيّ في مصر، ناصحًا عقلاء الشيعة بأنّ نشر التشيّع في غير بيئته في الدول السّنّيّة سيتسبب في الفتنة وعدم الاستقرار وزعزعة الأمن المجتمعيّ! وجاءت كلمة الدكتور علي جمعة خلال المحاضرة التي ألقاها يوم الثلاثاء، ضمن سلسلة المحاضرات التي ينظمها مجمع البحوث الإسلاميّة بالأزهر للتحذير من الفكر الشيعيّ!
وقد ذكر في محاضرته خمس نقاط رئيسيّة تبيّن اختلاف السنة مع الشيعة، منها:
1- قضيّة عدالة الصحابة وسبّ الشيعة للصحابة.
2- قضيّة تحريف القرآن.
وسأكتفي في هذا السياق بالتعليق على هاتين النقطتين ممّا أورد فضيلته من نقاط الافتراق بين التديّن السّنّيّ والتديّن الشيعيّ.
أبدأُ بكلمة للشيخ علي جمعة قالها في العام 2007 ونشرتها رسالة التقريب في العدد 60 ص 248: "بعضهم كان يقرأُ في بحار الأنوار ويعتقد أنّ هذا عقيدة الشيعة، ويرفض التعاون معهم، وهذا ليس منهجًا علميًّا، ولكن كلّ الموجود في بحار الأنوار لا يقرّه الشيعة، ولكنه في الحقيقة مسألة أکاديميّة فقط، وحين جاؤوا يطبعون الكتاب حذفوا مسألة سبّ الصحابة وهذا التغيير جاء من فتح باب الحوار، ولهذا حذفوا الأجزاء من 29 إلی 33 خمسة مجلدات التي کانت تحوي ذلك.
لهذا قلت لهم: هل مسألة سبّ الصحابة دين؟! أم سبّ الصحابة موقف؟! مع العلم بأنه لیس هناك إمام من أئمّة الشيعة المعصومين سبّ الصحابة! فلم يسب سيّدنا الحسين الصحابة ولا علی زين العابدين ولا محمد الباقر، وكذلك الإمام جعفر الصادق لم يسب الصحابة وغيرهم.
إذن فهذا من فعل الخلاف ولا يعد دينًا. ولهذا حذفوا المجلدات الخمسة التي تحوي ذلك فقد راعوا ذلك حتی لا تحدث بينهم وبين الأمّة الإسلاميّة فجوة".
قال في شأنها الشيخ علي جمعة في المقال المذكور العام 2007: "قضيّة تحريف القرآن، كان هناك کتاب ألّفه أحد الشيعة الكبار منذ أكثر من 150 سنة واسمه النوري، وهو رجل حجّة ومرجع ومعتمد، واسمه "فصلُ الخطابِ فی أصل تحريف الكتاب لربّ الأرباب"، والحقيقة أنّ علماء الشيعة لم يرضوا بهذا الكتاب وردّوا عليه، بل إنّ بعضهم أغلظ القول للنوري حتی قال بعضهم عبارة "إنّ أخطاء الكبار كبار"!
في العام 2006 وفي العدد 54 من مجلة "رسالة التقريب" احتفت المجلة برأي الشيخ علي جمعة الذي جاء فيه: "يحزننا ما يجري في العراق من فتنة عمياء تُظهر رأسها بين السنة والشيعة وکكثير من الناس يتساءلون: ما السنة وما الشيعة وما الخلاف بينهما؟ وهل يعترف بعضهم ببعض وهل هما كدينين منفصلين کما يدّعي بعضهم في الغرب؟ أقول: إنّ الأزهر الشريف قد اعترف بالمذاهب الفقهيّة الثمانية التی يقلدها المسلمون في العالم في عصرنا الحاضر وهي الأربعة السنّيّة (الحنفيّة والمالكيّة والشافعيّة والحنابلة) واثنان من الشيعة (وهما: الجعفريّة والزيديّة) واثنان من خارج ذلك وهما (الإباضيّة والظاهريّة) التي تكوّن الموسوعة الفقهيّة التی بدأت في سنة 1960 بالمجلس الأعلی للشؤون الإسلاميّة والتي وضع برنامجها العلامة المرحوم محمد فرج السنهوري ومعه آخرون من کبار رجال الفقه فی مصر.
وكان قبل ذلك قد أصدر الإمام الأکبر الشيخ محمود شلتوت قرارا باعتماد المذهب الجعفريّ واعتماد الأخذ منه عند أهل السنة، وهذا کله نراه مسطورًا في كتب الفريقين عبر التاريخ، يعرض هذا رأي هذا ويعرض ذاك رأي الآخر مرّة لمناقشته ومرة لاعتماده ومرة لنصرته وترجيحه! ممّا يدل علی أنهما علی دينٌ واحدٌ وعلی قبلة واحدة هي الكعبة المشرفة، وعلی مصدر واحدٍ هو کتاب الله وسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنّهم يصومون شهر رمضان لا يختلفون فيه ويصلّون الخمس ويحجون البيت فما الخلاف بينهما إذن؟!".
إنّ مسؤوليّة التقريب هي مسؤوليّة جماعيّة لا بدّ أن يشترك فيها العالم والمثقف والفقيه والأديب والدّاعية ورجل الإعلام والصّحافة والسّياسة إلى جانب الأجهزة والمؤسّسات الرسميّة والشعبيّة وهي كما اقترحت إستراتيجيّة التقريب بين المذاهب محاور العمل التي ينبغي أن تكون:
1- تخطيط عمليّات التقريب والسهر على تنفيذها مع تبني إستراتيجيّات محلية منبثقة من أهداف هذه الإستراتيجيّة الأمّ التي ترى أنّ التقريب عاملٌ مهمٌّ في تضييق رقعة الخلافات والحدّ من انتشار ظاهرة التعصّب المُفضية إلى التفرقة والفتن، وجسرٌ متينٌ لترسيخ قيم الائتلاف والتسامح.
2- إعداد البرامج والأنشطة القابلة للتنفيذ على المستوى الوطنيّ وربطها بالأنشطة المماثلة في بلدان الدول الأعضاء، وتطوير أنشطتها، وإذكاء حيويّتها.
3- تنمية علاقات التعاون والتكامل مع الهيآت المماثلة في البلدان الشقيقة، ومع المنظمات والهيآت ذات العلاقة، وطنيّا وعربيّا وإسلاميّا.
4- الإسهام في إعداد حملة رسالة التقريب، وتدريبهم على نشر ثقافته، وفق أسس إسلاميّة وحدويّة صحيحة وسليمة.
*خلاصة من بحث خالد محمد عبده 'التقريب بين المذاهب الواقع والمأمول'، ضمن الكتاب 77 (مايو 2013) 'التشيع في مصر' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.
ميدل ايست أونلاين