مساحة رأي

بين تل أبيب وطهران: من يُعيد الجغرافيا السورية إلى سياقها؟

محمد الشماع

منذ متى فقدت المدن السورية أسماءها وصارت تُعرف بمواقع الضربات؟ البوكمال لم تعد مدينة حدود، بل تقاطع رمزيّ لممر بريّ إيراني، وهمّ أمنيّ إسرائيلي، وقلق أمريكي راصد من وراء الحدود. الجولان ليس فقط أرضًا محتلة، بل صار امتدادًا عقليًا لعقيدة الردع الاستراتيجي الإسرائيلي. الشمال ممدّد تحت ظلّ أنقرة، والشرق مربوط بخيوط الوصاية الأمريكية. وفي القلب، دمشق تتوارى خلف بيانات الصمت… وتنتظر.

سوريا اليوم ليست ساحة حرب فقط، بل ساحة رمزية لصراع سرديات. إيران تسعى عبر الأرض السورية لإثبات معادلة ردع ضد تل أبيب، وتتمدد سياسيًا وعقائديًا في الجغرافيا الشامية، لا حبًا بدمشق، بل وفاءً لمشروع يتجاوزها. في المقابل، تُمارس إسرائيل ضربات “وقائية” على الأرض السورية، تُصوَّر كحماية لأمنها، لكنها في عمقها هندسة جيوسياسية لحدود الردع، واستعراض لحقٍ غير مُعلَن بالتحكُّم في فضاء الآخر.

بين هاتين القوتين، تسقط السيادة السورية لا بالقصف، بل بالتقاسم غير المعلن. مدينة بعد أخرى تتحول من حاضنة وطنية إلى وظيفة دولية: ممر، قاعدة، رسالة، تهديد، نقطة انطلاق، أو نهاية طريق.

المثير في هذه المعادلة أن لا أحد يسأل السوريين عن رأيهم. لا حين تُستخدم أرضهم كساحة تصفية حسابات، ولا حين يُطلب منهم الصمت حفاظًا على “مصالح الكبار”. وحده المواطن السوري يدفع الثمن: في الأمن، في الخبز، في الشعور بالانتماء إلى وطن له معنى مستقل. أما الدولة، فإن كانت موجودة، فهي تتحدث بلغة الاحتواء أو الإنكار، لا لغة القرار.

إن تحركات القوات السورية نحو البوكمال قد تُقرأ على أنها استعادة سيطرة، لكنها في عمقها اختبارٌ محفوف بالغموض: هل الهدف هو ضبط الحدود الوطنية؟ أم المشاركة في توزيع نقاط النفوذ؟ في ظل تضارب المصالح بين إيران، أمريكا، وإسرائيل، تبدو كل خطوة عسكرية كأنها حركة فوق رقعة شطرنج لا نملك قواعدها، ولا نعرف إن كانت قطعنا تحرّكت بإرادتنا أو بيد لاعب لا يُرى.

في المقابل، يحق لنا أن نسأل: أين المثقفون؟ أين الإعلام السوري المستقل، أو المنفي، أو المقموع؟ أين الخطاب الذي يرفض تحويل البلاد إلى ملعب للآخرين؟ فكما تُصادر الأرض بالقوة، تُصادر السردية بالصمت أو التبعية. وإن كنا لا نملك سلاحًا يُغيّر المعادلات، فإن الكلمة —حين تكون واعية، جريئة، محرّرة من الاصطفاف  قادرة على إرباك الاستراتيجيات، وعلى إعادة توجيه البوصلة نحو سؤال: لمن تنتمي هذه الأرض حقًا؟

إن الجغرافيا ليست خطوطًا على خريطة، بل ذاكرة، وهوية، ومجال قرار. والسياق السوري لا يُعيده إلا مشروع وطني يرفض الالتحاق الأعمى، ويتجاوز الاصطفاف الطائفي أو الأيديولوجي. لا طهران تملك حق الوصاية، ولا تل أبيب تملك شرعية الهيمنة. وما بينهما، لا بدّ من صوت ثالث يقول: هذه الأرض لنا، وليست لاختبار أدواتكم.

في اللحظة التي تتحول فيها سوريا إلى مساحة لإثبات الردع الإيراني، أو لتوسيع المجال الحيوي الإسرائيلي، تصبح الكتابة عملاً سياديًا، والموقف الأخلاقي فعلاً سياسيًا. ليس من باب الترف أو الحنين، بل من باب الضرورة الوجودية.

ومن هنا، فإن إعادة الجغرافيا السورية إلى سياقها لا تبدأ ببيان رسمي، ولا بمبادرة سياسية خارجة من غرفة مظلمة، بل تبدأ بسؤال يعلنه من بقي يؤمن بسوريا: إلى متى نظل ننظر إلى أرضنا بعيون الآخرين؟ وإلى متى تبقى الحدود تُرسم في مراكز القرار الإقليمي دون أن يكون للسوريين حق الاعتراض أو الحلم؟

سوريا ليست هامشًا، ولا يليق بها أن تكون بوابةً لمشروع خارجي، مهما ادّعى. وإذا كانت الحرب الإيرانية – الإسرائيلية تُخاض فوق أرضها، فإن المعركة الأخطر هي معركة استرداد المعنى من بين ركام الصواريخ وإعادة سياق الجغرافيا إلى يد أصحابها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى