مراسلات حسين – مكماهون: عملية التجزئة في طورها الأول
.. “لأنَّها (الثورة العربية) تتوافق مع أهدافنا المباشرة، المتمثّلة في تفكيك الكتلة الإسلامية وهزيمة الإمبراطورية العثمانية وتحطيمها، ولأنَّ الدول التي سيقيمها (الشريف حسين) خلفاً للأتراك لن تكون بالضارّة بنا.. بل إنَّ العرب أقلّ استقراراً من الأتراك، وإذا ما جرى التعامل معهم على النحو الملائم فسيبقون في حالٍ من الفسيفساء السياسية، نسيجاً مؤلّفاً من إمارات صغيرة غيورة عاجزة عن التماسك”.
توماس إدوارد لورنس (كانون الثاني/يناير 1916)
دعا داعش مؤخّراً إلى وضع حدّ لاتفاقية سايكس بيكو والحدود المصطنعة التي رسمتها، وذلك في محاولة للظهور بمظهر القوة المجدّدة والمناهضة للاستعمار. وكانت من بين أعمالها الأولى إزالة المراكز الحدودية بين سوريا والعراق. لكن موقف داعش المناهض للتجزئة يبقى قاصراً، لأنَّ المشكلة الأساسية هي عملية التفرقة التي توفّر مبرر التجزئة. فالتفرقة، عملياً، هي الجانب الجوهري من التجزئة، الجانب الذي يجعلها عملية تتعلق بالسكّان والإقصاء في المقام الأول ولا تقتصر على الأرض والاقتصاد. وهذا ما أدركه دعاة الوحدة العربية والقوميون العرب فأدانوا في حينها التجزئة الاستعمارية المتمثّلة باتفاقية سايكس بيكو ورفضوها واقترحوا في بعض الأحيان بدائل وحدوية عربية جامعة، وترجموا خطابهم في محاولات فعلية لنزع الحدود وإقامة ضروب من الاتحادات.
التجزئة تولّد.. مزيداً من التجزئة
لكن اتفاقية سايكس بيكو لم تكن الخطوة الأولى في عملية التجزئة. وثمّة ثلاث من الوثائق، تعود إلى مئة عام من الآن، كانت قد بذرت بذور التفرقة والتجزئة الاستعمارية في الشرق الأوسط. فهناك مراسلات حسين – مكماهون (بين السيد حسين بن علي، شريف مكة، وهنري مكماهون، المندوب السامي البريطاني في مصر، في الفترة من 1915 إلى منتصف 1916)، وهي الوثيقة التي أدخلت فكرة تجزئة المنطقة على أسس عرقية ودينية. ثم اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، وهدفت إلى تقاسم الأراضي العربية في الإمبراطورية العثمانية بين الشركاء الذين أبرموها (فرنسا والمملكة المتحدة بموافقة روسيا القيصرية وإيطاليا). وأخيراً، وعد بلفور الصادر في عام 1917 والذي منح حركةً استعماريةً حقوقاً في استيطان فلسطين، مؤكّداً بذلك تجزئة بلاد الشام.
لم يَحُلْ إبرام هذه الوثائق الثلاث على الضد من إرادة السكان الأصليين، دون المصادقة عليها مجتمعة وعلى المبادئ التي تستند إليها في معاهدة “سيفر” وعصبة الأمم. وفي عام 1922، فرضت هذه الأخيرة عقوبات على إقامة حدود اعتباطية في الأراضي العربية، خصوصاً سوريا الكبرى التي تُركت فضاء لأربع بلدان عربية خاضعة للاستعمار الغربي: سوريا ولبنان وشرق الأردن – الذي عُرف لاحقاً باسم الأردن – وفلسطين. أما العراق، فخُتِمَ على مستقبله بالمعاهدة البريطانية العراقية في عام 1922.
ما إن أُدْخِلَت التجزئة خدمةً لمصالح القوى الاستعمارية، حتى تطورت لتغدو أداة تلجأ إليها هذه القوى ذاتها – وتلك التي تتبعها- في حلّ أيّ نزاع قومي وإثني وديني ينشأ ويتطور بوصفه نتيجة للتقسيم والتفرقة الاستعماريين ذاتهما. وفي بعض الأحيان، كانت التجزئة أيضاً مهرباً لتلك القوى عند مواجهتها عواقب أفعالها، وهي التقسيم والتفرقة، المبدآن الهاديان في إدارة جميع المستعمرات البريطانية والفرنسية. وسياسة “فرق تسد” هي السياسة التي اختارها الحكام المحليون وشركاؤهم الاقتصاديون والماليون بين الأقليات الدينية. ومقابل أدنى ولاء، وتفادياً للاضطراب، كانت تُقَدَّم الامتيازات. ومثالا فلسطين والعراق هما مهمان في هذا الصدد.
أثبتت التجزئة، بعد قرن من مراسلات حسين – مكماهون، أنها عملية دينامية تحمل في داخلها عناصر تجددها. بعبارة أخرى، تولّد التجزئة مزيداً من التجزئة. وقد وقفت عقودٌ من ممارسات التفرقة وخطابات التجزئة وراء تقويض الشرق الأوسط وبقاء حدوده الموروثة عن القوى الاستعمارية.
لطالما اقتصر التعامل مع هذه الوثائق الثلاث على تناول الوعود المتناقضة المفترضة أو الحقيقية التي قطعتها بريطانيا. تحاول هذه المقالة إعادة قراءتها من منظور تصفية الاستعمار، فترى أنَّ كلَّ واحدةٍ منها جزءٌ من عمليةٍ أدت إلى التجزئة الاستعمارية الفعلية للشرق الأوسط.
بروتوكول دمشق
شهدت السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى اشتداداً في العداء التركي/العربي واستشراءً في القمع الشديد للاستقلاليين العرب. كما عملت رغبة الحكومة العثمانية في خلع حسين على توسيع الفجوة بين الهاشميين والأتراك.
حين توقف عبد الله، ابن الشريف حسين، في القاهرة في شباط/فبراير عام 1914، سأل هوراشيو هربرت كشنر، القنصل البريطاني العام، ورونالد ستورز (“سكرتير الشرق” في القاهرة)، عن موقف بريطانيا من الثورة العربية الآتية. وكان الحذر يملي موقف بريطانيا. تعرّف فيصل، ابن الشريف حسين، في طريقه إلى اسطنبول للقاء الصدر الأعظم، على جمعيتي “العربية الفتاة” و “العهد” السريتين المتمركزتين في دمشق. وناقش معهما إمكانات تنظيم ثورة عربية ترمي إلى الاستقلال. وكان ثمة شعور لديهما بأنه لا يمكن الوثوق بدعم القوى الإمبراطورية، ذلك أنَّ حضور أوروبا كان يزداد في المنطقة لا من خلال التغلغل الثقافي والاقتصادي فحسب، بل بوصفها قوة استعمارية أيضاً، لاسيّما في شمال أفريقيا. كما ساهمت الثورة في ليبيا في تشدد الخطاب المعادي للاستعمار.
حين كان فيصل في اسطنبول، اشتد القمع على قادة حركة الاستقلال والحركة القومية العربية ما أدى بكلتا الجمعيتين إلى الخروج بـ “بروتوكول دمشق” (بوصفه أساساً للاتفاق مع بريطانيا)، يرسم حدود الأرض المُطالب بها ويحدد دور بريطانيا المستقبلي:
– تعترف بريطانيا باستقلال البلاد العربية الواقعة ضمن الحدود التي تبدأ شمالاً: بخط مرسين – أضنة، ممتداً على أورفة وماردين وجزيرة ابن عمر فحدود فارس، وشرقاً: حدود إيران حتى الخليج، وجنوباً: المحيط الهندي (ما عدا عدن)، وغرباً: البحر الأحمر والأبيض حتى مرسين.
– إلغاء الامتيازات الأجنبية.
– عقد تحالف دفاعي بين بريطانيا والدولة العربية المستقلة.
– منح بريطانيا الأفضلية في الشؤون الاقتصادية.
المراسلات الشهيرة
بعد أشهر عدة من الاتصالات الأخيرة بين حسين وكيشنر، في 14 تموز/يوليو 1915، كتب الأخير إلى المندوب السامي الجديد في مصر، هنري مكماهون، لاستئناف المناقشات. وطالب حسين بأن تعترف إنكلترا بالاستقلال العربي بحسب بنود بروتوكول دمشق. لم تكن المسألة العربية أولوية ولم تؤخذ على محمل الجد لا قدرة العرب على التمرد، ولا قدرتهم على حكم أنفسهم. بل نزع كثيرون في الحكومة، ولا سيما في الهند، إلى الحذر خوفاً من التداعيات في بقية الإمبراطورية، وتصوّروا أن يجري ضمّ ما بين النهرين (العراق).
وعلى الرغم من جميع الانتقادات، واصلت بريطانيا “التفاوض”، معتبرة أنَّ ذلك يمكن أن يمنحها مزايا محتملة – في ميادين القتال – على العثمانيين والألمان. واعتقدت، علاوة على ذلك، أن حسين، شريف مكة، يمكن أن يساعدها في مواجهتها الجهاد الذي أعلنه السلطان في بداية الحرب العالمية الأولى. أمّا النقاش حول الحدود فقد تأجّل.
لكن الشريف لم يكن يفاوض بالأصالة عن نفسه هو وحده، وما كان يمكن لمسألة الحدود أن تنتظر نهاية الحرب، إذ كانت “النقطة الأساسية”، إلى درجة أن بريطانيا لم تلتزم بها من دون تحفظات وشروط. ولذلك، طالب مكماهون في جوابه المؤرّخ في 24 تشرين الأول/أكتوبر 1915، باستثناء ولايتي مرسين واسكندرونة وأجزاء من بلاد الشام الواقعة في الجهة الغربية لولايات دمشق الشام وحمص وحماة وحلب من الحدود المطلوبة كشرط للاعتراف باستقلال العرب. وكانت الحجة التي قُدَّمت لتبرير ذلك هي أنها “لا يمكن أن يقال إنها عربية محضة”:
“إن ولايتي مرسين واسكندرونة وأجزاء من بلاد الشام الواقعة في الجهة الغربية لولايات دمشق الشام وحمص وحماة وحلب لا يمكن أن يقال إنها عربية محضة. وعليه يجب أن تُستثنى من الحدود المطلوبة. مع هذا التعديل وبدون تعرض للمعاهدات المعقودة بيننا وبين بعض رؤساء العرب، نحن نقبل تلك الحدود. وأما بخصوص الأقاليم التي تضمنها تلك الحدود، حيث بريطانيا العظمى مطلقة التصرف بدون أن تمس مصالح حليفتها فرنسا فإنّ (…) بريطانيا العظمى مستعدة بأن تعترف باستقلال العرب وتؤيد ذلك الاستقلال في جميع الأقاليم الداخلة في الحدود التي يطلبها دولة شريف مكة”.
إنَّ المناطق التي “لا يمكن أن يقال إنها عربية محضة” هي تلك التي كانت موطناً لأقليات مسيحية كبيرة مثل لبنان – الذي كان أيضاً تحت سلطة فرنسا – أو لسكّان من الأتراك والكرد والأرمن في شمال سوريا. “وبالمناسبة”، كانت هذه أيضاً هي الأراضي التي يعلم البريطانيون أنَّ عين فرنسا عليها. أمّا بالنسبة إلى فلسطين، فلم تُذكر بوصفها كذلك، وهي تقع جغرافياً إلى الجنوب الغربي من المناطق المذكورة.
تكشف هذه الرسالة البعد الإثني – الديني وراء تجزئة بلاد الشام /سوريا التي كان من شأن ترجمتها على أرض الواقع أن تشكّل أساساً لتجزئة ذات بعدين: جغرافي وديموغرافي. قبل الشريف استثناء ولايتي مرسين وأضنة من المملكة العربية (وليس اسكندرونة التي كانت جزءاً من ولاية حلب وتالياً من الأراضي العربية المُطالَب بها)، وكان ذلك هو التنازل الإقليمي الوحيد الذي كان على استعداد لتقديمه. واللافت على الرغم من ذلك، أنه لم يقبل تعريف ماكماهون لـ “عربية محضة”، وشدّد على أن جميع المقيمين في المناطق المُطالَب بها هم من العرب، بغض النظر عن دينهم:
“وأما ولايتي حلب وبيروت وسواحلها فهي ولايات عربية محضة ولا فرق بين العربي المسيحي والمسلم فإنهما ابنا جد واحد، وتقوم فيهم منا معاشر المسلمين ما سلكه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من أحكام الدين الإسلامي ومن تبعه من الخلفاء، أن يعاملوا المسيحيين كمعاملاتهم لأنفسهم بقوله “لهم ما لنا وعليهم ما علينا”، علاوة على امتيازاتهم المذهبية وبما تراه المصلحة العامة وتحكم به”.
وإذ لفت الشريف حسين إلى أن الولايات العراقية هي من أجزاء المملكة العربية المحضة، بحيث لا استقلال يمكن أن يكون كاملاً من دون ذلك، رضي على الرغم من ذلك بتركها تحت الإشغال البريطاني أو الإدارة البريطانية إلى مدة يسيرة. لكن حسيناً عبّر عن بعض القلق حيال دور فرنسا والمعاهدات مع العرب الآخرين، فما كان من مكماهون إلا أن أجّل مناقشة ذلك إلى ما بعد “هزيمة العدو”.
ومن دون اتفاق دقيق بل بوعود، بدأ الطرفان مراسلات عملية أكثر تتعلّق بالتحركات الاستراتيجية على أرض الواقع، والخدمات اللوجستية. وعلى أساس هذا الفهم أنشأ شريف مكة وأتباعه قوة عسكرية بقيادة فيصل. واستسلمت تركيا يوم 31 تشرين الأول/أكتوبر 1918.
خاتمة
لم يكن لدى مكماهون، كما أكد في رسالة إلى اللورد هاردينغ، نائب الملك والحاكم البريطاني في الهند ورئيسه السابق، أيّ نيّة في منح العرب ما وُعِدوا به.
علاوة على فتح مراسلات حسين – مكماهون الطريق أمام المجهود الحربي العربي إلى جانب الحلفاء، ساهمت أيضاً في منح بريطانيا دوراً بارزاً في ساحة الشرق الأوسط. وباتّخاذ الحكومة البريطانية موقع المفاوض على أراضٍ خارج نطاقها، أكدت رؤيتها الاستعمارية التي تقوم على إعادة صوغ الأرض العربية الواقعة تحت الحكم العثماني وتجزئتها تبعاً لمصالحها ومصالح فرنسا. بل إنّ مفاوضات بريطانيا وفرنسا التي أفضت إلى اتفاق سايكس بيكو كانت قد بدأت بالفعل والمراسلات بين حسين ومكماهون لا تزال جارية.
وفي الخلاصة، يشكل وعد بلفور العنصر الأخير في عملية تجزئة الشرق الأوسط.
* باحثة في تاريخ الصهيونية، من أصل تونسي. حائزة على دكتوراه من جامعة إكستر بإشارف إيلان بابيه
صحيفة السفير اللبنانية