
سان فرانسيسكو – بين الضباب والماء البارد، وفي قلب خليج سان فرانسيسكو، تقف جزيرة “الكاتراز” كندبة في جبين التاريخ، وكأنها شاهدة على زمنٍ حاول نسيان نفسه.
كل مساء، حين تنسحب الشمس خلف المحيط الهادئ، تُلقي بأشعتها البرتقالية الأخيرة فوق جزيرة “الكاتراز” القابعة منذ قرون في أحضان خليج سان فرانسيسكو. هناك، عند آخر نقطة يختفي فيها الضوء، يدخل المكان في عتمةٍ ثقيلة، حيث يغدو الليل سميكًا كالحبر، والماء أكثر برودة ووحشة.
في ذلك اليوم، قررنا – صديقي وأنا – أن نقتنص لحظات من المتعة والمعرفة معًا. بدأنا رحلتنا من قلب المدينة، من مواقف “حديقة الاتحاد”، ومنها انطلقت بنا سيارة أوبر لتقودنا عبر حكايات سان فرانسيسكو.
أولى محطاتنا كانت “الحديقة الذهبية” حيث أكثر من مليون شجرة وعشرة آلاف نبتة، تُعيد للروح صفاءها. وهناك، بعد نزهة بين الأشجار، أعددنا أرواحنا لكوب قهوة منحنا طاقة اليوم. ومن بعدها، إلى شارع “لومبارد”، طريق متعرج ينحدر من “الهضبة الروسية”، تحفّه الورود وكأنها زُرعت لترضي عين كل زائر، وبين الأبنية الفخمة والسيارات الزاحفة كالسلاحف، عرفنا لماذا أطلق عليه الناس “طريق الورد”.
ثم كان اللقاء المرتقب مع جسر “البوابة الذهبية”، المعلّق في الهواء كحلم. يومها كان الضباب كثيفًا، والجسر شبه خفي، لكننا لمحنا من خلاله جزيرة “الكاتراز”… الوجهة التالية.
كانت الجزيرة في السابق محمية عسكرية، تحوّلت لاحقًا إلى سجن فيدرالي شديد الحراسة، يأوي أخطر المجرمين وأكثرهم قسوة. سجناء في عزلة، في صمت لا يقطعه سوى صدى القيود. ومع الوقت، ومع ارتفاع تكاليف تشغيله، أُغلق السجن عام 1963، وتحول لاحقًا إلى معلم سياحي يزوره أكثر من مليون إنسان سنويًا.
لكن وسط هذه الواجهة السياحية، يظل السؤال معلقًا:
أليس هناك طريق آخر؟
أليست هناك طريقة أكثر إنسانية لإصلاح البشر، كما تفعل الدول الإسكندنافية وسويسرا، حيث يُعامل السجين ككائن قابل للإصلاح، لا كمنبوذ بلا أمل؟
ربما لا تزال “الكاتراز” حتى اليوم، تهمس… لا من خلف القضبان، بل من ذاكرةٍ لم تُغلق أبوابها بعد.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة