حينَ يتحوّلُ التَّأويلُ سجناً للنَّصِّ المُؤسِّس… دعوةٌ إلى تحرير القُرآنِ الكريم
د. مُحمَّد الحوراني

هل نملكُ الشَّجاعةَ لمُساءَلةِ ما ظننّاهُ مُقدّساً، حين لا يكونُ هو النَّصَّ عَيْنَهُ، بل ما تَراكَمَ حولَهُ من تأويلات؟ وهل نحتاجُ اليومَ إلى إعادةِ فهمِ الدِّين، أو إلى تحريرِ نَصِّهِ المُؤسِّسِ من كُلِّ ما عَلِقَ بهِ من زَيفِ التاريخ ورواسبِ التأويلات؟
ليسَ غريباً أن يُطلِقَ بعضُ الباحثينَ والمُفكِّرينَ الغربيّينَ على الإسلام الذي دُوِّنَ عن القُرونِ الهجريّةِ الأولى مُصطلَحَ “الإسلام الأرثوذوكسيّ”، وهي تسميةٌ لا تتعلّقُ بالمذهبِ المسيحيِّ المعروف، بل ترتبطُ بمعنى المُحافَظَةِ وتقديسِ الماضي وتَصْنِيمِه، ومُعاداةِ الجديد بما يَحمِلُهُ من نقدٍ للرِّواياتِ الدِّينيّةِ المُتكلِّسَةِ القائمةِ على اجْترارِ الماضي بكُلِّ ما فيه من تَدْليسٍ ومُخالَفَةٍ لنقاءِ الدِّينِ وأصالَتِه، حتّى صارَ الأمرُ إلى إنتاجِ نُسَخٍ رديئةٍ من الإسلام، تتماهى معَ شُروطِ الإسلامِ السياسيّ، وتُسوِّغُ الفِكْرَ الجِهاديَّ التكفيريَّ، وبناءً عليهِ، مُنِعَ الإسلامُ الحقيقيُّ من المُشارَكةِ في إنتاجِ الثقافةِ الجديدة ودُخولِ عالَمِ بناءِ الإنسان، بل إنَّ تَشبُّثَهُمْ بكوارثِ التَّكْفِيرِ والتأثيمِ والتَّفْسيقِ جَعَلَهُمْ من أكبرِ المُشارِكينَ في تدميرِ الإنسانِ وهَدْمِ رسالةِ الإيمانِ باللهِ في الأرض.
مَنْ يمتلكُ الجُرأةَ اليومَ على مُراجَعَةٍ نقديّةٍ شاملةٍ للمَوْرُوثِ الدِّينيِّ لتخليصِهِ من سَرْدِيّاتِهِ الزَّائفةِ والانطلاقِ بالإسلامِ إلى الغايةِ التي أتى من أجلِها، التي تَتمَثَّلُ بإعمارِ الأرض والاستخلافِ فيها؟!
إنَّ نهضةَ المُسلمينَ واستِعادَتَهُمْ دَوْرَهُمْ بينَ الأمم، لا تكونُ إلّا بالعملِ وَفْقَ السُّنَنِ الإلهيّة التي تَحكُمُ قيامَ الحضاراتِ وسُقوطَها، فهيَ سُنَنٌ ثابتةٌ لا تُحابي أحداً، وقد ارتقَتْ بها أممٌ كثيرةٌ من قبلُ، حتّى وإنْ لم تَكُنْ مُسْلِمَةً، أو لم تَكُنْ تُؤمِنُ بدِينٍ أصلاً، لكنّها نَجَحَتْ في التوفيقِ بينَ الفِكْرِ العلميِّ والحِكْمَة، وأحسنَتِ التَّعامُلَ معَ الظاهرةِ الدِّينيّة لمّا اشْتَغلَتْ على تنقيةِ النَّصِّ الدِّينيّ من الزَّيفِ والشَّوائبِ العالِقَةِ به، بعدَ أنْ أعادَتْ قراءتَهُ ونَقْدَهُ، بعيداً عن تردادِ مَقُولاتِهِ التي تنتمي إلى حقبةٍ مُختلفةٍ كُلَّ الاختلافِ عن حِقْبَتِنا، وإلى بيئةٍ ثقافيّةٍ مُختلفةٍ عنها معرفيّاً وثقافيّاً، وكانَ هذا بمساحةٍ وُسْطى للنَّقْدِ البنّاءِ مكَّنتِ المُفكِّرينَ في تلك المُجتَمَعاتِ من قراءة النُّصوصِ الدِّينيّةِ قراءةً موضوعيّةً ومنطقيّةً تتوافَقُ معَ مُتَطلّبات العصر.
واليومَ تبدو الحاجةُ ماسّةً في مُجتَمَعاتِنا إلى التمييزِ بينَ الظاهرةِ القُرآنيّةِ والظاهرة الإسلاميّة بما تحظى بهِ الأولى من إجْماعٍ، أو شِبهِ إجماع، وحيويّةٍ وتَدفُّقٍ إبداعيٍّ وجماليٍّ وإنسانيّ، أمّا الظاهرةُ الثانيةُ فإنّها تُحِيلُنا إلى الشُّروطِ التاريخيّةِ والسِّياسيّة بكُلِّ ما فيها من مَحْلٍ وظُلْمٍ واستعبادٍ وتَناقُضٍ معَ البيئة والواقع المُعاصِرَين.
تبدو الحاجةُ اليومَ ماسّةً، أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى، إلى تحريرِ النَّصِّ الأساسيِّ (القرآن الكريم) من أعباءِ النُّصوصِ الثانويّة، كالتفاسيرِ والشُّروح، التي طغَتْ عليه، بل نُسِجَتْ حولَها قداسةٌ فاقَتْ قداسةَ النَّصِّ عينِهِ أحياناً.
لقد أُسِيءَ إلى النَّصِّ الأوّلِ لمّا أُقْصِيَ عن جَوْهَرِه، وكُبِّلَ بقُيودٍ لا تُناسِبُ رُوحَ العَصْرِ ولا انْفِتاحَ العقل والعلمِ، على الرَّغمِ من وُجودِ كثيرٍ من النُّصوصِ المُحذِّرةِ من هذا والدَّاعيةِ إلى إعمالِ العقلِ والسَّيرِ وَفْقَ المنهجِ العلميِّ البَنّاء (أنتُم أعلمُ بأُمُورِ دُنياكم).
بوابة الشرق الأوسط الجديدة