في زمنٍ تُعاد فيه صياغة الخرائط لا على الورق بل على ذاكرة الناس، يصبح الرمز أكثر خطورة من البندقية، وتغدو الكنيسة الأرثوذكسية في سوريا ليست مجرد مؤسسة دينية، بل ضميرًا وطنيًا يُقاوم الهندسة، ويُعيد تعريف الوطن من موقعه الروحي. لم يكن تفجير كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة الدمشقي مجرد عمل إرهابي، بل لحظة انكشافٍ سياسي وروحي، كشفت عن تصادم سرديات دولية حول مستقبل سوريا، وعن دور المسيحيين الأرثوذكس في حماية وحدةٍ لا تُقسم، حتى حين يُستهدف الرمز بالدم.
الكنيسة التي لطالما حافظت على حيادها، وجدت نفسها فجأة في قلب المعادلة. لم يكن الصمت خيارًا، ولم يكن الحياد ممكنًا. فحين يُستهدف الرمز، يُستهدف الوطن. وحين يُطلب من المسيحيين أن يُعاد توزيعهم ديموغرافيًا نحو الساحل، يُطلب من سوريا أن تتخلى عن ذاكرتها. في التسريبات التي لم تُعلن رسميًا، ورد أن جهات غربية ناقشت في غرف مغلقة “هندسة جديدة للمسيحيين”، تُفرغ دمشق من رموزها، وتدفعهم نحو كنتونات طائفية قابلة للسيطرة. الكنيسة الأرثوذكسية رفضت هذا الطرح، واعتبرته “هندسة دموية للهوية”. وفي لقاء مغلق مع توم باراك والسفير البريطاني، نُقل عن البطريرك يوحنا العاشر قوله: “أنتم تلعبون بالدم، ونحن لا نقبل أن نكون ضحايا هندستكم.” هذا التصريح، وإن لم يُنشر رسميًا، ورد في أكثر من تسريب، ويُعد لحظة مفصلية في خطاب الكنيسة، حيث انتقلت من الحياد إلى المواجهة الرمزية.
لكن المفارقة لم تكن في موقف الكنيسة فقط، بل في التحولات الإقليمية التي أعقبت التفجير. تركيا، التي لطالما حملت حساسيات تاريخية مع الكنيسة الأرثوذكسية، كانت أول من التقط الإشارة. مسؤول تركي رفيع، في لقاء مغلق مع السلطة الانتقالية، قال: “اللعب بالدم لا يصنع دولة، بل يُشعل ذاكرة لا تنطفئ.” أنقرة رأت أن تغييب الكنيسة يُهدد وحدة سوريا، ويُضعف شرعية السلطة الجديدة. وفي تسريب نُقل عن جهاز استخبارات تركي، ورد أن “الكنيسة الأرثوذكسية هي الضامن غير المعلن للهوية السورية غير الطائفية.”
هذا التحول التركي لم يكن حبًا مفاجئًا بالكنيسة، بل إدراكًا بأن تفجير الكنيسة هو تفجير للرمز، وأن الرمز إذا سقط، سقطت معه شرعية أي مشروع سياسي. ومن هنا، دخلت روسيا بثقلها، لا دفاعًا دينيًا، بل موقفًا جيوسياسيًا. الكنيسة الروسية، التي ترتبط روحياً بالبطريركية الأنطاكية، شددت على أن “سوريا لا تُبنى بلا كنائسها، كما لا تُبنى بلا جوامعها.” وفي بيان داخلي، ورد أن البطريرك الروسي قال: “الكنيسة الأنطاكية ليست طائفة، بل ضمير وطني. ومن يهمّش الضمير، يهمّش الوطن.”
هكذا، تحوّلت الكنيسة الأرثوذكسية من شاهدٍ صامت إلى فاعلٍ رمزي، يُعيد تعريف الوطن من موقعه الروحي. لم تعد الكنيسة مجرد مؤسسة تُقرع فيها الأجراس، بل أصبحت ذاكرةً لا تُمحى، وصوتًا يقول: “نحن هنا، لا نُهندَس، ولا نُمحى.”
في وثيقة داخلية صادرة عن البطريركية، ورد أن الكنيسة ترى نفسها “ذاكرةً لا تُمحى، لا طائفةً تُعاد هندستها.” هذا التحول في الخطاب يُعيد تعريف الكنيسة كفاعلٍ وطني، لا مجرد مؤسسة دينية. فهي تُذكّر بأن المسيحيين ليسوا أقلية، بل جزء من النسيج السوري. وتُذكّر بأن تفجير الكنيسة هو تفجير للهوية، لا مجرد عمل إرهابي.
وما جرى بعد تفجير الدويلعة ليس مجرد رد فعل كنسي، بل لحظة انكشاف: انكشاف للهندسة الغربية التي أرادت إعادة توزيع المسيحيين ديموغرافيًا، وانكشاف لدور الكنيسة كحارس للذاكرة الوطنية، لا مجرد مؤسسة دينية، وانكشاف لتقاطع المصالح بين تركيا وروسيا، حين يتعلق الأمر بوحدة سوريا.
في لحظةٍ تتصارع فيها السرديات، وتُعاد فيها هندسة الجغرافيا، يصبح الرمز أهم من القوة. والكنيسة الأرثوذكسية، برمزيتها، تُعيد تعريف سوريا كهويةٍ غير قابلة للتقسيم. وتركيا وروسيا، رغم اختلافاتهما، وجدتا في الكنيسة نقطة تقاطع، لا خصومة. أما الغرب، فقد انكشف في هندسته، حين أراد تحويل الدم إلى أداة توزيع، لا ذاكرة مقاومة.
لكن ما هو قادم ليس مجرد دفاع عن الوجود، بل صياغة لدورٍ جديد. فالكنيسة، التي خرجت من حيادها، لم تخرج لتعود إليه، بل لتقود من موقعها الرمزي مشروعًا وطنيًا يُعيد تعريف المواطنة بعيدًا عن الطائفة، ويُعيد بناء سوريا كهويةٍ جامعة، لا كجغرافيا قابلة للتقسيم.
إن الأرثوذكس السوريين، بما يحملونه من امتداد تاريخي وجغرافي، ليسوا طائفةً تُحمى، بل ذاكرةً تُصان، ومكوّنًا يُعيد التوازن بين الشرق والغرب، بين الروح والسياسة، بين الجغرافيا والوجدان. وفي زمنٍ تُعاد فيه كتابة الدساتير، يجب أن يُكتب في مقدمتها:
“الكنيسة الأرثوذكسية ليست طائفة، بل ضميرٌ وطنيٌ لا يُقسم.”
فالدور القادم للكنيسة ليس دفاعًا عن الذات، بل دفاعٌ عن وحدة سوريا، وعن رفضٍ صارم لأي هندسة تقسيمية، مهما تنكّرت بلغة الحماية أو التوزيع. وإذا كانت الكنيسة قد صمتت طويلًا، فإن صوتها الآن يجب أن يُسمع، لا كنداءٍ روحي فقط، بل كإعلانٍ وطني يقول:
“سوريا لا تُبنى بلا كنائسها، كما لا تُبنى بلا جوامعها.
وسوريا لا تُقسم، لأن ذاكرتها لا تُقسم.”