تحليلات سياسيةسلايد

أزمة التأشيرات تفتح فصلاً جديداً من التوتر بين الجزائر وباريس

استدعت وزارة الخارجية الجزائرية، الأربعاء، القائم بأعمال السفارة الفرنسية لديها، احتجاجا على بيان أصدرته البعثة الدبلوماسية لباريس بخصوص ملف منح التأشيرات وسط توقعات بتصاعد الأزمة بين البلدين فيما تعاني السلطات الجزائرية من حالة عزلة مع توتر علاقاتها مع دول في المنطقة مثل المغرب واسبانيا ودول منطقة الساحل.

ويأتي الاستدعاء على خلفية البيان الذي نشرته السفارة بشأن اعتماد الأعوان الدبلوماسيين والقنصليين الفرنسيين في الجزائر معتبرة أن البيان والذي “يخاطب الرأي العام الجزائري” يعد “خرقا جسيما للأعراف الدبلوماسية الراسخة”.

وأمس الثلاثاء، أعلنت سفارة باريس أنه ابتداء من مطلع سبتمبر/أيلول المقبل ستنخفض طواقمها هي والقنصليات الفرنسية في الجزائر بمقدار الثلث بسبب رفض تأشيرات أعوان جدد محذرة من أن هذا الوضع سيؤدي إلى تقليص مواعيد ومعالجة طلبات التأشيرة إلى فرنسا.

وقد أثار هذا البيان غضب الجانب الجزائري كونه “يُخاطب الرأي العام الجزائري بشكل مباشر في محاولة لتحميل وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية مزاعم مسؤولية حصرية وكاملة بشأن عدم اعتماد الأعوان الدبلوماسيين والقنصليين الفرنسيين”.

وحذرت الخارجية من ان “هذا التصرف من جانب السفارة لا يمكن التسامح معه، لما ينطوي عليه من انتهاك لروح ونص اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961”.

وبالنسبة للجزائر فإن “عدم اعتماد الأعوان الدبلوماسيين والقنصليين الفرنسيين في الجزائر جاء بعد قرار فرنسي مماثل … ولا يتعلق الأمر سوى بتطبيق صارم لمبدأ المعاملة بالمثل دون زيادة أو نقصان”.

وقال البيان “إنّ السلطات الفرنسية هي من بادرت، منذ أكثر من عامين، برفض اعتماد رؤساء مراكز قنصلية وأعوان قنصليين جزائريين في فرنسا. ونتيجةً لهذا الوضع، لم يتلقَّ ثلاثة قناصل عامين وستة قناصل جزائريين الاعتمادات المطلوبة، رغم مرور أكثر من ستة أشهر على تقديم طلباتهم”.

واعتبرت الوزارة أن ” قضية التأشيرات لا ترتبط فقط بمسألة الاعتمادات” وان الحكومة الفرنسية “جعلت من هذه المسألة أداة ضغط محورية ضمن سياسة القبضة الحديدية التي تسعى لفرضها على الجزائر”.

ويمثل البيان الرسمي حلقة جديدة في سلسلة التوترات المتصاعدة بين الجزائر وفرنسا، والتي بدأت تتخذ طابعًا دائمًا أكثر من كونها خلافات عابرة. في هذه المرة، تفجّرت الأزمة بسبب إعلان السفارة الفرنسية تقليص عدد موظفيها الدبلوماسيين والقنصليين في الجزائر بنسبة الثلث اعتبارًا من سبتمبر المقبل، بسبب “رفض السلطات الجزائرية منح تأشيرات لأعوان جدد”.

السفارة الفرنسية حذرت أيضًا من أن هذا التقليص سيؤدي إلى تقليص عدد مواعيد التأشيرات، وهو ما اعتبرته الجزائر خطوة أحادية الجانب، تُبرر الرد الدبلوماسي الغاضب.

رغم أن العلاقات الجزائرية الفرنسية طالما شابها التوتر بفعل خلفيات تاريخية واستعمارية معقدة، إلا أن التطورات الأخيرة تدفعها نحو مرحلة يُمكن وصفها بـ”اللاعودة”، حيث تتراكم المؤشرات على قطيعة استراتيجية باتت شبه مكتملة، رغم ارتباطات المصالح الحيوية بين الجانبين.

وبدأت فرنسا، من جهتها، تُظهر تشددًا واضحًا في تعاملها مع الجزائر. فقد أصدر الرئيس إيمانويل ماكرون تعليمات مباشرة لحكومته للتعامل “بحزم” مع ملف الجزائر، مشيرًا إلى حالات مثل الكاتب بوعلام صنصال والصحافي كريستوف غليز المسجونين في الجزائر، ما أثار حفيظة السلطات الجزائرية التي اعتبرت ذلك تدخلًا في شؤونها الداخلية.

وترد الجزائر، في المقابل، على هذه التطورات بخطاب سيادي مرتفع النبرة، يتمحور حول “رفض الوصاية” و”احترام السيادة الوطنية”. غير أن هذا الخطاب، الذي يلقى صدى داخليًا في بعض الأوساط، لا يُترجم فعليًا إلى مكاسب على الأرض، بل يسير في اتجاه معاكس يُفضي إلى مزيد من التوترات والعزلة.

هذا التصعيد، بدل أن يحقق نتائج لصالح الجزائر، يُعمّق حالتها من العزلة، خاصة مع امتداد خلافاتها إلى أطراف أخرى فاعلة إقليميًا مثل المغرب، إسبانيا، وحتى دول الساحل التي شهدت تقلصًا واضحًا في التعاون الأمني معها بعد سلسلة الانقلابات في المنطقة.

ورغم الرغبة الجزائرية المعلنة في تنويع شركائها الاقتصاديين، خصوصًا مع الصين وتركيا وإيطاليا، تبقى فرنسا شريكًا لا يمكن تجاوزه بسهولة. العلاقات بين البلدين تتضمن مستويات معقدة من التعاون في مجالات حيوية مثل الطاقة، التعليم، الأمن، والمبادلات التجارية.

إضافة إلى ذلك، هناك الجالية الجزائرية الضخمة المقيمة في فرنسا، والتي تشكّل جسراً اجتماعياً وثقافياً بين البلدين. وهذه الجالية قد تجد نفسها أكثر المتضررين من التصعيد، خصوصًا إذا ما تم تشديد إجراءات منح التأشيرات أو تقليص الخدمات القنصلية.

السياسة الخارجية الجزائرية تمر حاليًا بمرحلة انكماش حاد. فمع كل خطوة تصعيدية ضد فرنسا، يتقلص هامش التحرك الدبلوماسي الجزائري في المنطقة. الأزمة المفتوحة مع المغرب جعلت الحدود مغلقة والخلافات أكثر تعقيدًا، بينما تسبب الموقف الجزائري من ملف الصحراء الغربية في فتور العلاقات مع إسبانيا.

وفي منطقة الساحل، حيث كانت الجزائر لاعبًا أمنيًا رئيسيًا، تراجع دورها لصالح قوى أخرى بعد انسحابها من التنسيق الأمني إثر الانقلابات العسكرية. فبدلاً من استثمار هذه التحديات في بناء تحالفات، وجدت الجزائر نفسها تدريجياً محاطة بعلاقات باردة أو متوترة.

في ظل هذه التطورات، يطرح كثير من المراقبين تساؤلاً جديًا: هل التصعيد المستمر مع فرنسا خيار استراتيجي محسوب أم رد فعل سياسي مؤقت؟

البدائل التي تسعى إليها الجزائر لم تنضج بعد. فالشراكات الجديدة مع دول مثل الصين وتركيا لا توفر حتى الآن نفس المستوى من التكامل الذي توفره العلاقة مع فرنسا، خصوصًا في الملفات الأمنية والقنصلية والثقافية.

في عالم تسوده المصالح والموازنات، تُعتبر القدرة على إدارة التوترات أحد مؤشرات النضج السياسي والدبلوماسي. لكن الجزائر، بتصعيدها المستمر مع فرنسا، تُقحم نفسها في مواجهة لا تبدو كفتها راجحة فيها، خاصة في ظل عزلتها الإقليمية المتنامية، وتراجع نفوذها في محيطها الاستراتيجي.

ومهما كانت مبررات القطيعة مع باريس، لا تبدو في صالح الجزائر، لا اقتصاديًا ولا دبلوماسيًا. والرهان على خطاب سيادي جامد، دون أدوات تفاوض واقعية وشبكة تحالفات فعالة، لن يكون كافيًا لتجاوز هذا المأزق.

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى