
تزخر تقارير المخابرات الفرنسية في أثناء مدّة الاحتلال الفرنسي لسوريا، بمعلومات عن التمويل الذي حصلت عليه بعض الصحف الصادرة في بيروت ودمشق. وذكرت تلك التقارير تفاصيل دقيقة عن المفاوضات التي جرت بين مندوبي الوكالة اليهودية وأصحاب تلك الصحف.
في أثناء ثورة حائط البراق عام 1929، خصّصت الوكالة اليهودية ميزانية ضخمة لشراء ولاء الصحف العربية لصالح قضية اليهود في فلسطين. وكان الهدف، التأثير على توجّهات الرأي العام العربي المضاد لمشروع الاستيطان.
واللافت للنظر، في ما تكشفه تلك التقارير، أنه بمجرد أن يتمّ شراء ولاء أصحاب صحيفة ما، حتى يبدأ الهجوم على اللجنة العربية العليا في فلسطين واتّهامها بارتكاب المجازر. وهذا ما أشار إليه أحد التقارير الذي تحدّث عن تبدّل موقف جريدة «الأوريان» التي نشرت بياناً كاذباً نسبته إلى المفتي أمين الحسيني، نقلاً عن مندوب من الوكالة اليهودية. وجاء في تقرير آخر، نقلاً عن لسان العميل الصهيوني حاييم غالفارسكي، أنه أبلغ أصحاب «الأوريان»: «هنالك مصالح مشتركةٌ بين القضيّتين الصهيونية واللبنانية. فكلاهما انتصرتا أو يجب عليهما أن تنتصرا ـــــ الصهيونية في فلسطين والموارنة في لبنان ــــــ على قوّتين متعارضتين: الإسلام والاستعمار. وبالتالي، مصالح «الأوريان» في هذا الصدد هي نفسها مصالحنا».
يُلاحظ أيضاً أنّ الصهاينة لم يكتفوا بنشر مقالات مكتوبة من قبلهم بالفرنسية والعربية في الصحف، التي تمّت رشوة أصحابها، بل أنّ بعض تلك الصحف عبّرت عن استيائها من السياسة الصارمة التي يتّبعها المندوب السامي الفرنسي الكونت دو مارتل، والتي تحظر بشكل لا لبس فيه استيطان اليهود في بلاد الشام. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نطالع في صحيفة «العلم» الصادرة في بلدة بيت شباب، مقالاً في الصفحة الأولى بعنوان «اليهود في لبنان» جاء فيه: «تتعالى أصوات اللبنانيين من كل جهة طالبين إلى السلطة السماح لليهود بدخول لبنان لاستثمار أراضيه وبذل أموالهم في إحياء المشاريع العمرانية، أسوة بفلسطين التي تقدّمت تقدّماً محسوساً وازدهرت ازدهاراً لم تكن لتحلم به لولا نزول اليهود في بطاحها ووهادها».
ويعترف كاتب المقال بأنّ «فخامة المفوّض السامي الكونت دو مارتل، حتى اليوم من معارضي فكرة إدخال اليهود إلى لبنان وسوريا». لكنّ الكاتب يعبّر عن سروره لخبر دعوة نائب وزير المستعمرات الفرنسية المسيو كونديشن، الجمعياتِ اليهودية إلى الشروع بدخول الأراضي الواقعة تحت الانتداب الفرنسي، معتبراً أنه إذا صحّ الخبر «لا بدّ من أن تنفرج الأزمة قريباً في هذه البلاد، لأنّه بتوطين اليهود في لبنان وسوريا تحصل هذه البلاد على النتائج التي حصلت عليها فلسطين من التقدّم والنجاح والازدهار بفضل اليهود والأموال اليهودية».
منطق أنّ الاستيطان ورأس المال اليهودي يجلب الثروة والتحسّن في الوضع الاقتصادي، كان قد عبّر عنه أيضاً المحامي إلياس نمور، الذي أرسل أكثر من التماس إلى المندوب السامي الفرنسي بوصفه محامي شركة شراء الأراضي التابعة لروتشيلد (بيكا)، ينبّه في التماساته إلى الخير الذي سيجلبه الاستيطان إلى مناطق الانتداب الفرنسي.
واليوم يتكرّر المشهد ويطالب دعاة الاستسلام للعدو الصهيوني بتجريد لبنان من عناصر القوة والانضمام إلى المسيرة الإبراهيمية مقابل وعود بالمساعدات. بمعنى أدقّ: بيع البلاد مقابل المال.
المال كان ولا يزال الحافز الوحيد الذي أدرك الصهاينة أنه الكفيل بشراء العملاء. والفرق بين الأمس واليوم أنه في السابق خصّص الصهاينة ميزانية لشراء الأقلام، أمّا اليوم فإنّ مال النفط العربي هو الذي يقوم بالمهمّة لصالح الكيان الصهيوني.
لم تقتصر الدعاية الصهيونية على تمويل الصحف فقط، بل تمّ تمويل مجموعة من العملاء العرب الذين نشروا كتيّبات تهاجم بشدّة اللجنة االعربية العليا في فلسطين وتحمّلها مسؤولية بدء الاضطرابات و«الاعتداءات الدموية ضدّ اليهود عام 1929».
ويحتفظ الأرشيف الفرنسي في مدينة نانت، بنموذج من تلك المطبوعات نُشرت إحداها باسم محمد الطويل، بعنوان: «كتاب الحقائق المجهولة: اضطرابات فلسطين الأخيرة»، طبع في طبريا عام 1930. يعتبر كاتب النص أنّ «مقاطعة اليهود وبضائعهم تجلب الضّرر على الفلسطينيين فقط، وأنّ وعد بلفور جلب الخير إلى فلسطين حيث ارتفعت أسعار الأراضي»، وأخيراً يشنّ حملة تكفيرية شعواء ضدّ «النصارى أعداء المسلمين الألداء، الذين يتوارثون العداء للإسلام جيلاً بعد جيل، إنهم جواسيس الدول الأجنبية».
الواضح أنّ سبب الحملة على مسيحيّي فلسطين، هو موقفهم الرافض جذرياً للاستيطان الصهيوني، سواء عبر صحافتهم أو قياداتهم السياسية. لكنّ سياسة تكفير المسيحيين في فلسطين التي اعتمدها الصهاينة بواسطة عملائهم، انقلبت في لبنان ــــــ على سبيل المثال ــــــ رأساً على عقب، إذ سوّقوا لأنفسهم أنهم حماة المسيحيين والدروز أيضاً.
والتالي نموذجان من التقارير الأمنية الفرنسية من عام 1929، يرصدان التمويل الصهيوني لصحف صادرة في بيروت:
الوثيقة الأولى
جهاز المعلومات المركزي – المكتب الثاني
بيروت، بتاريخ 7 تشرين الثاني 1929
نشرة معلومات رقم 364
الحركة الصهيونية
باشر مدير مصرف الأنجلو – فلسطين ليرمير، وهو يهودي إنكليزي، مباحثاتٍ مع الصحف اللبنانية ليس فقط لتوقف كل هجومٍ على الصهيونية، بل لتدافع عنها؛ ومن المؤكّد أنّ صحيفة سيري Syrie تلقّت 150 ليرة ذهباً وأنّ صحيفة الأوريان L’Orient تلقّت 300 ليرة.
بدأت هاتان الصحيفتان بنشر مقالاتٍ تشير إلى توجّهٍ جديد، كالهجوم في «الأوريان» على مفتي القدس. إثر ذلك وجّهت الأوساط الإسلامية ملاحظةً بأنّ الصحيفتين الصادرتين بالفرنسية المواليتين للمندوبية السامية تعكسان ما تفكر به وتقوله الدوائر الفرنسية العليا.
سوف ترسل دعوة للقدوم إلى بيروت بعد ظهر اليوم السابع من الشهر إلى غوردون كانينغ [فاشي بريطاني]، الذي وصل في الخامس منه إلى فلسطين.
توقيع
الوثيقة الثانية
نشرة معلومات رقم 2807
المصدر: الأمن العام ـ بيروت.
بصدد: كالفنسكي، العنصر الصهيوني
جاء السيد كالفنسكي، العنصر الصهيوني البارز، إلى بيروت منذ حوالي عشرين عاماً وأقام عند عائلة يهودية من هذه المدينة. وقد تمّ وصله مع مديري عدّة صحف، لا سيّما «الأوريان» التي زارها، ويقال بأنّه جذب هذه الصحيفة إلى القضية الصهيونية عبر دفع مبلغٍ معيّن، وعلى أثر زيارته نشرت «الأوريان» الرسالة المنسوبة للمفتي الكبير في القدس، متّهمةً إياه بالتحريض على المجازر المرتكبة ضد اليهود.
يقال بأنّ جبران تويني، مدير صحيفة الأحرار، تعرّض أيضاً لجسّ النبض بصدد القيام بحملة لصالح الصهيونيين، وبأنّه رفض بسبب موقفه العلني المسبق بتأييده للعنصر العربي. ووردنا أنّه تذرّع بأنّ أي حملة لصالح الصهيونية ستضرّ بصحيفته ضرراً شديداً، وهي الصحيفة التي لديها كثيرٌ من القرّاء في الأوساط القومية والعربية في سوريا وفلسطين والعراق.
ويقال بأنّ كالفنسكي التقى واشترى رياض الصلح، المحرّض الرئيس على التظاهرات المناهضة للصهيونية في بيروت، وبأنّ هذا الأخير قدّمه لصديقه خير الدين الأحدب، مدير صحيفة العهد الجديد، الذي تلقّى مبلغاً معيّناً، ثم وعد بتخفيف حملته على الصهيونيين.
من المعتقد، من جانبٍ آخر، أنّ خير الدين الأحدب، تواصل مع السيد وايزمان، شقيق الزعيم الصهيوني الشهير.
بيروت، بتاريخ 14 تشرين الثاني 1929
توقيع المفتش العام للشرطة بالوكالة
الحلقة المقبلة: الاستيطان في حوران
* كاتب لبناني
صحيفة الأخبار اللبنانية