
لم يكن أحد يتخيّل أنّ «بتاح تكفا»، أول مستوطنة يهودية أقيمت على أنقاض قرية أم ملبس الفلسطينية عام 1878، ستكون منطلقاً مع غيرها من المستوطنات لمسيرة منظّمة هادفة لابتلاع كل فلسطين والانتقال إلى مرحلة التوسّع شمالاً، باتجاه تنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى. من هنا أرى أنّ قراءة وقائع تطوّرات الأحداث بعيداً عن التاريخ الرسمي الكاذب تضعنا في موقع فهم عميق لأسباب هذا الوضع الكارثي الذي نعيشه اليوم.
في هذه الحلقة من هذه السلسلة سأشير باختصار شديد إلى الاستيطان الصهيوني في حوران في أواخر القرن التاسع عشر، وما أعقبه من تحوّلات جذرية وانهيار وفشل مريع تواجهه الشام اليوم، بعد اجتياح الجيش الصهيوني للأرض وتدميره الجيش السوري ومواصلته القصف اليومي واحتلاله كل منطقة حوران بما فيها جبل الشيخ والوصول إلى أبواب دمشق. وتوّج نتنياهو، كل ذلك بالإعلان مزهوّاً من على قمّة جبل الشيخ «باقون هنا ولن نرحل عن أرضنا».
دوافع تركيز الصهاينة على أولوية الاستيطان في الجولان، تعود إلى أسباب أيديولوجية توراتية وإلى الإمكانيات الاقتصادية الهائلة للمنطقة التي من الممكن أن توفّر السكن والعمل لمئات الألوف من المهاجرين اليهود. ويعتبر الصهاينة أنّ حوران التي ذكرت في «سفر حزقيال»، هي جزء من «أرض إسرائيل»، وأنّ قبيلة منسى اليهودية المسماة نسبة إلى منسى الابن الأكبر ليوسف ابن يعقوب، استوطنت في شمال وجنوب اليرموك. واعتبروا أيضاً أنّ نبي إسرائيل سليمان، كان يفرض الضرائب على تلك المنطقة التي كان يتحكّم بها حكّام اليهود.
أمّا من الناحية الاقتصادية، فالمنطقة غنيّة جدّاً بمواردها الزراعية وتربتها البركانية الخصبة ومواقعها السياحية والأثرية، إضافة إلى منابع المياه المتدفّقة من جبل الشيخ، ناهيك عن الثروات المعدنية ومعظمها غير مكتشف حتى اليوم. هذه الثروات الضخمة التي تتمتّع بها المنطقة، جعلتها هدفاً صهيونياً ثابتاً منذ موجات الاستيطان اليهودية الأولى في فلسطين. وبقدر الاهتمام الصهيوني بضمّ المنطقة نهائياً إلى الدولة العبرية، كان هناك أيضاً اهتمام مماثل ومتواصل بضمّ منابع المياه في جنوب لبنان، والتي تتعرّض اليوم إلى خطر حقيقي.
كانت مواقع الاستيطان المفضّلة لدى القادة الصهاينة الأراضي المحاذية للحدود ما بين مناطق الاحتلال الفرنسي والبريطاني والتي تقع فيها معظم مصادر المياه.
ومنذ بدء عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر، توجّهت أنظار الصهاينة كذلك للاستيطان في ما سمّوه «أرض إسرائيل»، وكان سنجق حوران، الذي يشمل مرتفعات الجولان وسهل حوران ومنطقة اللجاة في صلب مخطّطاتهم. لذلك، تولّت «لجنة أرض إسرائيل» التي أسّسها في باريس، البارون إدموند دو روتشيلد، شراء الجزء الجنوبي الغربي من حوران في الجولان وتبلغ مساحته حوالي مئة ألف دونم، كان معظمها من أملاك أحمد باشا أبو الهدى، من أثرياء دمشق، إضافة إلى قسم آخر كان من أملاك الحكومة العثمانية.
جرت عملية الشراء بواسطة سماسرة مقيمين في بيروت أبرزهم إميل فرانك. ورغم أنّ القانون العثماني كان يمنع بيع أراضي «الميري» (أملاك الدولة) في سوريا وفلسطين لليهود من غير الرعايا العثمانيين، إلا أنّ إميل فرانك، بصفته مواطناً فرنسياً، تمكّن من شراء الأراضي في حوران وتسجيلها باسمه الخاص، مستفيداً من نفوذه في دوائر السلطة بدمشق وبيروت.
وكما تشير التقارير الفرنسية، وكيلا تثير السلطات المحلّية غضب الحكومة المركزية في إسطنبول، طالبت إميل فرانك، بالتعهّد بعدم استبدال القرويين المقيمين على الأرض بمستوطنين أجانب. هذا الشرط دفع روتشيلد، إلى التدخّل لإنقاذ مشروع الاستيطان وأرسل في نهاية 1894 إلياهو شديد، المدير العام لشؤونه، إلى إسطنبول مع رسالة إلى الصدر الأعظم، يطلب فيها السماح بدخول 200 إلى 300 عائلة يهودية سنوياً إلى حوران، ومنحهم الحق في الاستيطان. وبعد مدّة تسلّم روتشيلد رسالة من الصدر الأعظم، تسمح للأسر اليهودية في الاستيطان. لكن لم يكن لتلك الرسالة أي أثر عملي، إذ سرعان ما قوّضت السلطات المحلّية الوعد السلطاني، وعمد كاظم باشا حاكم دمشق، إلى طرد المستوطنين المنتشرين في ستّ قرى، وسبق ذلك أنّ ممثّلي القبائل البدوية رفعوا رسائل إلى الصدر الأعظم تطالب بمنع الاستيطان.
أمّا مع بدء الاحتلال الفرنسي، فقد تمّ نقل الأملاك إلى صهيوني فرنسي آخر، هو سالمون رايناخ. وتواصلت المحاولات مع السلطات الفرنسية لتعزيز الاستيطان وانتقال الأراضي إلى شركة «بيكا» التابعة لروتشيلد، والتي تأسّست سنة 1923.
أرسل روتشيلد في نهاية 1894 إلياهو شديد، المدير العام لشؤونه، إلى إسطنبول مع رسالة إلى الصدر الأعظم يطلب فيها السماح بدخول 200 إلى 300 عائلة يهودية سنوياً
تحدّثنا الوثائق الفرنسية الصادرة عن مراكز المخابرات الفرنسية في جنوب سوريا أنّ عدّة محاولات جرت لشرعنة الوجود الاستيطاني الصهيوني في حوران، جميعها باءت بالفشل. وكانت ردّة الفعل بين السوريين سلبية جدّاً، وقادت الصحف السورية الحملة لفضح عمليات بيع الأراضي من قبل كبار الملّاكين، أمثال أسرة اليوسف وأبناء الأمير عبد القادر الجزائري. وتحفل التقارير الفرنسية بترجمة لافتتاحيات الصحف السورية وأخبارها المضادّة للاستيطان. وكان المندوب السامي الفرنسي دميان دو مارتل، يصرّ على رفض مقترحات ومشاريع متعدّدة للاستيطان، تقدّمت بها جمعيات أوروبية تدّعي ألّا علاقة لها بالحركة الصهيونية.
ورغم الرفض الشعبي لمبدأ الاستيطان، إلا أنّ كبار الملّاكين والسماسرة وبعض المحامين من طوائف مختلفة كانوا من مشجّعي فتح مناطق الاحتلال الفرنسي أمام الاستيطان. وكانوا يزورون دو مارتل، ويحثّونه على السماح بالهجرة التي «ستنقذ سورية من أزمتها الاقتصادية» وفق ادّعاءاتهم. لكن رغم حملة كبار الملّاكين الذين كانوا أقلّية، فإنّ سلطات الانتداب بقيت على موقفها المعادي للهجرة.
في المدّة ما بين 1925 و1930، هناك ما يقارب 22 تقريراً فرنسياً يتحدّث بالتفصيل عن محاولات صهيونية لانتقال الملكية من سالمون رايناخ، إلى شركة «بيكا» التابعة لروتشيلد. أكتفي هنا بنشر خلاصة مقطع من رسالة التماس قدّمها إلى المندوب السامي بتاريخ 31 كانون الثاني 1929، المحامي الياس نمور، بوصفه وكيلاً عن «جمعية الاستعمار الصهيونية». يعرض نمور بنوداً قانونية اعتبرها ملزمة للحكومة كي توافق على عملية انتقال الأملاك. كما يعرب عن تذمّره من «مسؤول الطابو في درعا الذي امتنع عن إجراء معاملات الانتقال، وأنّ إدارة الأجهزة العقارية والأوقاف في دمشق قد تبنّت موقف إدارة الطابو في درعا أيضاً»، لذلك التمس التدخّل لصالح وكيله وإجراء عملية الانتقال.
كل ذلك أصبح من التاريخ، وما التذكير به اليوم إلا للتأكيد على أنّ استماتة حكّام دمشق للاستسلام والتنازل غير المشروط عن الأرض السورية بناءً على نصائح ووساطات أميركية، تركية، أوروبية، قطرية وغطاء كامل من الأنظمة العربية، لن يوقف القصف والقضم الصهيوني للأرض السورية. ويتّضح اليوم من صمت حكّام دمشق أنّ دعم الناصحين لهم، وهم بالمناسبة مَن سلّحهم وموّلهم وغطّى على جرائمهم، هدفه بالدرجة الأولى ضمّ دمشق إلى تحالف أنظمة العرب مع الصهاينة.
وواقع الحال اليوم أنّ ردّ فعل سلطات دمشق على التوحّش الصهيوني، يشبه تماماً ردّ فعل السلطة اللبنانية في بيروت. لا اكتراث للاحتلال ولا للقتل الذي يمارسه الصهاينة، كل ذلك تنفيذاً لتوجيهات رعاة النظامين الغربيين والعرب.
في نهاية المطاف، فشلت محاولات إحياء الاستيطان في حوران، في عهد الاحتلال الفرنسي، وفور إعلان قيام دولة إسرائيل، ألغت الحكومة السورية ملكيّة «بيكا»، وانتقلت جميع العقارات إلى حوزتها. لكنّ إدارة «بيكا» لم تسلّم بالقرار؛ واتّخذت إجراءات قانونية ضدّ الحكومة السورية، وواصلت إيداع المبلغ الذي كانت تدفعه عادة إلى السلطات السورية، كضريبة سنوية لصناديق الوقف والحكومة في بنك في باريس، رغم رفض الحكومة السورية قبول المبالغ المودعة باسمها في المصرف الفرنسي.
واليوم، لا حاجة للصهاينة للمطالبة بمستعمراتهم السابقة، جيشهم اجتاح كل المنطقة بدون طلقة رصاص واحدة. وأمامهم فرصة ذهبية لإعادة إحياء طموحات الصهاينة الأوائل. وإذا كانت أولويات حكّام دمشق قتل شعبهم كما يجري يومياً، فإنّ سوريا اليوم التي «تنعم بانتصار ثورة الناتو» والأتباع العرب، قد تمّ سوقها بإرادة حكّامها إلى مقصلة التشرذم.
الحلقة المقبلة: مشاريع للاستيطان في الاسكندرون والفرات
* كاتب لبناني
صحيفة الأخبار اللبنانية