
عن الموت وأشياء أخرى !….. أردتُ الارتباط بمسألة هامة مع الآخرين، أجدُ نفسي أتهرب من تحديد موعدها، لأن لدي قناعة تشكلت مع الزمن، بأن شيئاَ ما سيعيق تنفيذ الموعد، وهذا الهاجس له علاقة بعدم الثقة بإدارة الوقت والسيطرة عليه، علما أن ساعاتِ طويلةً وربما تمر أيام من دون أي حدث يشغلني.
في الآونة الأخيرة برز هاجسٌ جديدٌ يتعلق بالموت، وكأن من واجبي أن أقومَ بما يلزم حتى بعد الموت، وأقنعت نفسي بإسقاط هذه الأوهام، لكنها أبت النأي عن هواجسي وظلت تهاجمني بين وقت وآخر.
اكتشفتُ أن السبب يعود إلى عام 1981، وكنتُ على موعد مع صحفي صديق يدعى ياسر عيادة، اتفقت معه على أن نلتقي ونذهب إلى بيتي لتناول الغداء ظهراً، لكن الذي حصل أن المخابرات العسكرية ألقت القبض علي الساعة الخامسة صباحا عند مدخل الهيئة العامة للإذاعة في ساحة الأمويين، وكنت أهم بالدخول لإعداد نشرة أخبار الإذاعة في السابعة والربع بعد برنامج مرحبا ياصباح .
لم أخفْ من التحقيق، وقتها على الأقل، وخاصة أنني استقبلت في سرية الاعتقال من دون أي إهانة، فالجميع نيام، ووضعت في غرفة أنتظر، وكان هاجسي يتعلق بمسألتين: الأولى تتعلق بنشرة الأخبار ومسؤوليتي عنها ، والثانية تتعلق بموعدي مع صديقي ياسر الذي لم ألتقيه منذ ذلك الوقت، فماذا سيقول عندي عندما يحل الموعد ولا آتي، وبالتالي سيبقى من دون غداء ؟
إذا المسألة قديمة، ولم أتمكن من تجاوزها، بل صارت تتمظهر بأشياء أخرى، وسأقرأ عليكم الآن آخر كتاباتي عن الموت ، وقد كتبتها فجأة قبل أن أرتب أفكاري، وقد كتبت الفقرات التالية:
أولا : أفضل أن لا أموت في البيت، لا في غرفتي ولا في الصالون، لكي لا أفرض على من يعيش بعدي تذكر جثة الميت الذي هو أنا ، وبالتالي سأشعر بعقدة ذنب تجاه ذكرياته المؤلمة التي قد تجتاحه كلما جلس في المكان .
ثانيا : أفضل أن لا أموت في الطريق، لكي لا يتراكض الناس الطيبون لمساعدتي أو الاتصال بالإسعاف ، وقد حصل هذا عام 2008 على طريق المطار عندما انقلبت فوق سيارتي رافعة ضخمة يقودها شاب لايملك شهادة سواقة، فهشمت سيارتي وأصابتني أنا وصديقي ياسر بدوي بجروح خطيرة..
لقد خاطر أحد سائقي السيارات العابرة بالوقوف بعرض الطريق لانقاذي وإنقاذ ياسر، ولم أتمكن من معرفته وشكره فيما بعد لأنه أوصلني إلى المستشفى وغادر من دون أثر .
ثالثا : أفضل أن لا أموت في المستشفى كي لا يضعوني في البراد، فكل الحالات التي شاهدت جثثها في البرادات أرقتني فيما بعد، وتعاطفت مع وحدتها والبرودة القاتلة التي تحيط بها .
رابعا : كلما زرت القبور أرسم ابتسامة حزينة وأسأل : إلى متى سيظل هذا المكان محجوزا للميت ، لذلك أوصيت أن أدفن في قبر أبي كي لا أشغل مكانا ربما يحتاج الناس إليه، وخاصة أنني لم أشاهد أبي منذ خمسين عاما وقد اشتقت إليه .
هذه هي هواجسي ، وينبغي أن أكتبها ..
بوابة الشرق الأوسط الجديدة