
جملةٌ تُقال كثيرًا اليوم، لا تعبيرًا عن يأسٍ شخصي، بل عن شعورٍ جمعيٍّ يخيّم على العالم بأسره. كيف يمكن أن يكون هناك أملٌ في زمنٍ لا يعرف سوى الحروب، والدمار، والتناحر، والاستقطاب بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، وبين الأعراق والألوان والثقافات؟ كيف يمكن أن ننتظر سلامًا عالميًا، في حين أن البشرية لم تتعلّم من مآسيها المتكرّرة إلا المزيد من العناد والأنانية والدماء؟
الحروب اليوم لم تعد مجرد نزاعات مسلّحة بين دولٍ وجيوش. لقد أصبحت نمطًا من أنماط الحياة البشرية المعاصرة؛ حروبٌ في الميدان، وحروبٌ في الإعلام، وحروبٌ رقمية واقتصادية وبيئية. فالعالم الذي ظنّ أنه خرج من قرن الحروب الكبرى إلى قرن السلام والتنمية، يجد نفسه الآن غارقًا في موجات متلاحقة من الصراعات التي تلبس ألف وجه وتختبئ خلف ألف شعار.
انظر إلى خريطة الشرق الأوسط، فهي المثال الأوضح على استحالة التفاؤل في هذا الزمن.
سوريا تمزّقت ولم تلتئم، فلسطين تنزف بلا توقف، العراق بين الماضي المثقل والجغرافيا الممزقة، لبنان يغرق في أزماته، واليمن ما زال ساحة حرب منسية. وعلى الضفة الأخرى، تتواصل الحروب بالوكالة، تتبدّل الرايات لكن الموت واحد. المنطقة التي كانت مهد الحضارات والأديان، أصبحت اليوم مختبرًا للتجارب الجيوسياسية، ومسرحًا لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى.
وفي المقابل، لم يعد الغرب نفسه نموذجًا للاستقرار أو العدالة. فالأزمات الاقتصادية تضرب قلب أوروبا، والتطرف القومي يعود بقوة، والعنصرية ترفع رأسها في وجه المهاجرين والملونين. أمريكا، التي كانت تعتبر نفسها قائدة “العالم الحر”، تعيش اليوم انقسامًا داخليًا خطيرًا، سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، وكأنها تسير نحو مواجهة داخلية مؤجلة. أما أفريقيا، فتعاني من الفقر والنزاعات والانقلابات، فيما تُنهب ثرواتها تحت مسميات جديدة من “الاستثمار” و”التنمية”.
كيف يمكن أن يكون هناك أمل، والعالم يسير بهذا الشكل نحو التدمير الذاتي؟
كيف يمكن الحديث عن سلامٍ بشريٍّ شامل، ونحن ما زلنا نُفرّق بين الناس على أساس اللون والعرق والدين؟ الأبيض يتعالى، والأصفر يُستهزأ به، والأسود يُظلم، والبني يُهمّش. كأننا لم نتعلم شيئًا من قرون العبودية والاستعمار والعنصرية.
الإنسان، الذي اخترع الذرة وبلغ الفضاء، لم يستطع بعد أن يكتشف “سلامه الداخلي”.
العلم تقدّم، لكن الوعي تراجع. التكنولوجيا قرّبت المسافات، لكنها عمّقت العزلة. صار الإنسان أكثر اتصالًا بالعالم، وأقل فهمًا لنفسه.
الحروب لم تعد فقط على الأرض، بل أيضًا في العقول: حربُ الأفكار والمعلومات، حربُ الهويات، حربُ السيطرة على الوعي الجمعي للبشر.
ولعلّ السؤال الأخطر اليوم:
هل نحن فعلاً على أعتاب حربٍ عالمية ثالثة؟
المؤشرات الاقتصادية والسياسية تقول إن العالم يعيش مرحلة ما قبل الانفجار. التضخم العالمي، انهيار العملات، سباق التسلح، توتر العلاقات بين القوى العظمى – أمريكا، الصين، روسيا – كل ذلك يُذكّر بسنوات الثلاثينيات التي سبقت الحرب العالمية الثانية. لكن الفارق الآن أن أي حربٍ جديدة ستكون مختلفة تمامًا؛ فالحروب لم تعد تُخاض فقط بالسلاح التقليدي، بل بالذكاء الصناعي، والهجمات السيبرانية، وحروب العملات والطاقة والمعلومات.
الأزمات الاقتصادية المتلاحقة ليست مجرد “دورات مالية”، بل انعكاس لأزمة أعمق في فلسفة الاقتصاد العالمي نفسه.
النظام الرأسمالي بات ينهار من الداخل، بعد أن جعل الإنسان سلعةً في سوقٍ بلا ضمير.
المصانع تُغلق، والبطالة تتصاعد، والفوارق الطبقية تتسع، فيما تتراكم الثروات في يد قلةٍ من البشر تسيطر على مصير المليارات.
هذا هو الكساد الجديد الذي يهدد العالم، كسادٌ لا يُقاس بالأرقام فحسب، بل بانهيار الثقة بين الشعوب وحكوماتها، وبين الإنسان ومصيره.
ولأن القادة والساسة في معظم دول العالم باتوا جزءًا من المشكلة لا من الحل، تتسع الفجوة بين الحاكم والمحكوم.
قلةٌ منهم تمتلك الرؤية أو الشجاعة أو الحكمة لوقف الانحدار، وكأن الإنسانية اليوم تعاني من فقرٍ في القيادة بقدر ما تعاني من فائضٍ في الأزمات.
الأنظمة تتسابق على التسلح لا على التعليم، على النفوذ لا على المعرفة، على السيطرة لا على العدالة.
وسط كل هذا، يصبح السؤال: هل فعلاً لا أمل؟
ربما الجواب ليس “نعم” أو “لا” مطلقة. فالأمل لا يُولد من السياسة، بل من الإنسان نفسه.
لكنّ ما يجعل الأمر مؤلمًا هو أن الإنسان الذي يفترض أن يكون مصدر الأمل، صار هو أيضًا الضحية والجلاد في آنٍ واحد.
إن لم يُغيّر البشر أنفسهم، فلن تغيّرهم الحروب ولا الأزمات ولا الكوارث.
ما في أمل؟
ربما ليس اليوم.
لكن الأمل، وإن غاب عن الأخبار وعن الخطابات، يبقى شرارة صغيرة في وجدان من يرفض أن يسير في القطيع.
يبقى في عيون طفلٍ يحلم، وفي يد مزارعٍ يزرع رغم الجفاف، وفي قلب إنسانٍ يختار أن يُحبّ رغم الكراهية.
فالعالم، رغم ظلامه، لا يزال يملك في داخله نقاط ضوء كثيرة، تنتظر فقط من يؤمن بها.
ومع ذلك، يبقى السؤال معلقًا بين الواقع والرجاء:
هل سيتغير هذا العالم قبل أن يُدمّر نفسه؟
أم أن البشرية ستظل تسير بخطى ثابتة نحو هاويتها، وهي تظن أنها تتقدم؟
حتى ذلك الحين، ربما لا بأس أن نقول بمرارةٍ ووعيٍ عميق:
ما في أمل… لا تندهي.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة