لماذ البشرية تعيش في عصرنا هذا في حالة من الفساد الأخلاقي والكساد الاقتصادي والتنمر لم تشهد له مثيل البشرية من قبل ؟
ماهر عصام المملوك

في القرن الحادي والعشرين، يعيش العالم حالة غير مسبوقة من الفساد الأخلاقي والانحلال الاجتماعي والاضطراب الاقتصادي، حتى ليخيل للمرء أن البشرية وصلت إلى ذروة التناقض بين التقدم التقني والانحدار القيمي. فبينما بلغت التكنولوجيا أقصى درجات التطور، إذ أصبح العالم قرية صغيرة تتصل أطرافها بكبسة زر، نجد في المقابل أن القيم التي كانت يوماً ما ضامنة لتماسك المجتمعات وتوازنها قد تهاوت أمام إغراء المادة وسرعة اللذة وفوضى الحرية المطلقة.
لقد كان الإنسان في العصور السابقة أسيراً لحدود الزمان والمكان، تحكمه الأعراف والدين والتقاليد، ويعيش ضمن منظومات اجتماعية تضبط سلوكه وتمنحه معنى لوجوده. أما اليوم، فقد تحرر من تلك القيود الظاهرة، لكنه في الوقت ذاته أُسِرَ في فضاء رقمي لا حدود له، باتت فيه الرغبات تتحقق فوراً، والممنوعات تُعرض علناً، والفضائل تُسخر منها على منصات التواصل الاجتماعي. صار الإنسان يطارد ذاته في دوامة لا تنتهي من المقارنة والمنافسة والتسلية، حتى فقد المعايير التي تميز بين الخير والشر، بين القيم الحقيقية والسطحية.
يُرجع بعض المفكرين أسباب هذا الانفلات الأخلاقي إلى ثورة الاتصالات والميديا الحديثة، التي ألغت الخصوصية وكسرت الحواجز النفسية والاجتماعية بين البشر. فالممنوع أصبح متاحاً، والمحتشم أصبح موضع سخرية، والقدوة غابت لتحل محلها شخصيات تافهة صُنعت شهرتها في دقائق من الإثارة أو الفجور.
إنّ ما يُعرض يومياً عبر المنصات من عنفٍ وإباحيةٍ وتفاهةٍ صار يغذي لاوعي الأجيال، ويخلق فيهم أنماطاً جديدة من القيم تقوم على الأنانية والاستهلاك والمتعة اللحظية.
ومن جهة أخرى، لا يمكن فصل الفساد الأخلاقي عن الفساد الاقتصادي، فهما وجهان لعملة واحدة. حينما تُختزل قيمة الإنسان بما يملك لا بما يكون، يتحول المجتمع إلى غابة من المصالح المتبادلة والمساومات الرخيصة.
نعيش اليوم في عالم تُغسل فيه الأموال القذرة، وتُشرعن فيه السرقات تحت عناوين “التسوية” و”المصالحة” و”تنظيف الأموال”، وكأن الجريمة تُمحى بمجرد دفع ثمنها. وهكذا تتكرّس ثقافة الإفلات من العقاب، ويترسخ في الوعي الجمعي أن المال يمكنه شراء كل شيء، حتى الأخلاق.
الاقتصاد العالمي نفسه يعيش حالة من الكساد البنيوي، ليس بسبب نقص الموارد بل بسبب احتكارها وسوء توزيعها. الفقر اليوم لم يعد قدراً، بل نتيجة مباشرة لسياسات جشعة تقودها شركات عملاقة عابرة للحدود، تسيطر على الغذاء والطاقة والإعلام، وتعيد تشكيل وعي الشعوب وفق مصالحها. ومع هذا الاحتكار، يتفاقم الشعور بالظلم الاجتماعي، فتتولد منه مشاعر الكراهية والتنمّر والتناحر، فيتحول الإنسان إلى كائن ناقم يفرغ غضبه في أضعف منه.
أما على الصعيد السياسي، فقد دخل الفساد من أوسع أبوابه. فبدل أن تكون السياسة فنّ إدارة الشعوب وصون مصالحها، أصبحت تجارة ومساومات بين القوى والنخب، تُدار خلف الكواليس على حساب المواطن العادي. كثير من الأنظمة اليوم تمارس الفساد علناً وتغلفه بعبارات مثل “الاستقرار” و”المصلحة العليا”، والسلام العادل وكأنّ الشر أصبح ضرورة للحكم. هذه الازدواجية السياسية تسهم في إضعاف الثقة بين الفرد والدولة، وتعمّق شعور الإنسان بالعجز واللامبالاة.
إنّ هذه المنظومة المتشابكة من الانهيارات الأخلاقية والاقتصادية والسياسية ليست وليدة الصدفة، بل هي ثمرة تحوّل حضاري عميق بدأ منذ أن استبدل الإنسان المعنى بالمادة، والروح بالشهوة، والغاية بالوسيلة. لقد جعلته الثورة التكنولوجية يظن أنه قادر على السيطرة على كل شيء، لكنه في الحقيقة فقد السيطرة على ذاته. صار يستهلك دون أن يفكر، ويتواصل دون أن يتواصل حقاً، ويتحدث كثيراً دون أن يقول شيئاً.
ورغم هذا المشهد القاتم، فإن الأمل لا يغيب تماماً. فكما أن التاريخ عرف عصور ظلام أعقبتها نهضات فكرية وروحية، قد تكون هذه المرحلة نقطة تحول نحو وعي جديد. فالبشرية، وإن غرقت في الفساد والانحلال، ما تزال تمتلك القدرة على النقد والمراجعة والتصحيح. وربما تكون الأزمات التي نعيشها اليوم صرخة إنذار تدعو الإنسان للعودة إلى جوهره، إلى القيم التي تحفظ إنسانيته وتعيد التوازن بين التقدم المادي والرقي الأخلاقي.
إنّ العلاج الحقيقي لا يكمن في سنّ قوانين جديدة أو في فرض رقابة على الوسائل التقنية فحسب، بل في إعادة بناء منظومة الوعي الجمعي على أسس من المسؤولية والقيم.
فالمجتمع الذي يربّي أبناءه على الصدق والنزاهة والكرامة لا يمكن أن ينهار مهما تقدمت المغريات. والإنسان الذي يجد في ذاته معنى أعمق للحياة لن يحتاج إلى الهروب وراء الشاشات أو المال أو الشهوة.
في النهاية، يمكن القول إنّ أزمة القرن الحادي والعشرين ليست أزمة علم أو تقنية، بل أزمة أخلاق وإنسانية. فحينما يفقد الإنسان بوصلته الأخلاقية، لا تنفعه أقمار صناعية ولا ذكاء اصطناعي ولا وفرة مادية. وحدها القيم قادرة على إنقاذ الحضارة من سقوطها المحتوم، وإعادة الإنسان إلى مكانه الطبيعي ككائن عاقل، لا مجرد مستهلك أو متفرج على انهيار العالم الذي بناه بيديه.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر



