
تطرح رواية «سقوط جنتلمان» للكاتب الأميركي هربرت كلايد لويس سؤالاً عن اختبار الإنسان حين يُنتزع فجأةً من سياقه، فيجد نفسه وجهاً لوجهٍ مع الفراغ المُطلق أمام حيرته وتساؤلاته.
تنطلق الرواية من لحظة غريبة مُكثّفة بالتأمل، ماذا لو سقط أحدهم في البحر؟ ما الذي يمكن أن تهبه غريزة البقاء لصاحبها في تلك اللحظة، ومن سننتظر حين نصبح وحدنا أمام اتساع الأفق وعجز الجسد؟ وبذلك، يقدّم لويس في روايته القصيرة تجربة وجودية مكثفة، تتخذ من الغرق مجازاً للوعي الإنساني وهو يُجرَّد من يقينه.
بطل الرواية «هنري بريستون ستانديش» الذي يبلغ الخامسة والثلاثين من عمره، يعيش في نيويورك حياة نموذجية بمعيار الاستقرار الاجتماعي والمادي، ويقدّمه السرد بوصفه رجلاً دقيقاً، مهذّباً، لا يفعل شيئاً خارج المألوف، كما لو كان مخلوقاً من النظام ذاته الذي يحكم عالمه «كان هو أكثر الرجال إثارةً للضجر بسبب تطرفه في الالتزام»، ولكن حياة الرجل المثالية يتسلّل إليها فراغ داخلي غامض، فيقرر السفر وحيداً لصفاء الذهن، وتتفهم زوجته أوليفيا رغبته في الابتعاد.
على متن السفينة «أرابيلا» المتّجهة من هونولولو إلى بنما يبدأ ستانديش رحلته الجديدة، التي تجمعه بمسافرين عابرين، وهو الأمر الذي أثار حماسته في بداية الرحلة: «منذ البداية قضى ستانديش وقتاً رائعاً، ومن دون أن يبدو غامضاً على نحو غير مبرر استطاع أن يحصر الأسئلة المتعلقة بحياته الخاصة في الحد الأدنى، وقضى وقته في التطفّل ببراعة على حياة زملائه في السفينة».
يكتشف ستانديش مهارة جديدة في نفسه وهي ملاحظة الغرباء، وبين طقوس الطعام المحدّدة وحرصه على ارتداء ملابسه الرسمية، يظل حريصاً على التهذيب واللياقة في كل تصرفاته على متن السفينة. رجل يعيش كأنه نموذج للنظام ذاته، لا يُخلّ بإيقاع العالم حوله، لكنه في ذات صباح ينزلق بسبب بقعة دهنٍ على سطح السفينة، فيسقط في المحيط الهادي ليبدو حتى في سقوطه الدرامي «جنتلمان» لا يستطيع إثارة جلبة للفت الانتباه إليه.
مرآة البحر
ينتاب ستانديش في البداية شعور بالإحراج أكثر من شعوره بالخوف؛ فرجال طبقته، كما يقول الراوي العليم، لا يسقطون من السفن في عرض البحر، فيبدو انفعاله بهذا السقوط متراوحاً ما بين إحراجه، وشعوره بهول الموقف فتخرج صرخاته «مُتزنة» لا يسمعها أحد، فيما تمضي السفينة مبتعدةً ببطءٍ حتى تختفي، فيبقى وحده وسط المحيط، نقطة بشرية ضئيلة في مواجهة الأبدية الزرقاء.
يكثّف لويس الصورة الرمزية للبطل من خلال علاقته بحركة السفينة بعد سقوطه منها؛ فقد كانت السفينة بالنسبة له «ديناصوراً» ضخماً يتحرك بعيداً، وكانت «الشمس» تنظر إليه كأنه «سمكة»، فبدا وكأنه «الشائبة الوحيدة في هذا البحر» حسب تعبير الراوي، وهي جملةٌ تضعه في مواجهةٍ وجودية مع نقاء الطبيعة التي لا تعبأ بوجوده، وتكشف في الوقت نفسه أن مثاليته المفرطة لم تحمه من السقوط.
يتداخل الصوت السردي في الرواية مع أزيز غرفة محركات السفينة، وهياج البحر وسكونه، في تناغم خفي بين البحر كآلةٍ ضخمةٍ وبين نبض ستانديش الداخلي، فهو «الجنتلمان» الذي يحرص على ارتداء ملابسه الرسمية حتى في رحلة استجمام على متن سفينة في البحر، ويقدّس طقوس الإفطار في موعدها، ويصرّ على ضبط إيقاع جسده حتى في مواجهة الفناء.
يتوازن السرد بين صورتين متناقضتين؛ صورة الرجل الغارق في المثالية والنظام، وصورة الجسد الملقى في اللامكان في قلب المحيط، وبينهما يتأمل ستانديش ماضيه، وعلاقته بأسرته وأطفاله وحياته المهنية، ويستكشف على حافة الحياة معنى المغامرة والرعب والغياب، فـ«الرجل المنهجي» يكتشف أنه سقط من السفينة، ومن الإطار الاجتماعي الذي كان يظنه مُقدساً، وفي لحظات وعيه الأخيرة يتحوّل البحر إلى مرآة ضخمة يرى فيها هشاشته، وهو يُجاهد طافياً على سطحه.
ومع تصاعد شعوره بالاختناق يبدأ ستانديش في التحرر التدريجي من طبقات «الجنتلة» التي كبّلته، فيلقي بملابسه، كمن يتخفف من رموز طبقته القديمة في سبيل الطفو والبقاء، وتصبح معركته مع الماء استعارةً لرحلة نحو جوهر الإنسان العاري من الزيف والمظاهر، وفي إحدى اللحظات الحاسمة يصف الراوي إحساسه قائلاً: «شعر ستانديش بنفسه يختنق، وأدرك على نحوٍ مأساوي أنه يموت مختنقاً، لكن بطريقةٍ ما لم يرغب في فعل أيّ شيء حيال ذلك، لم يعد يهتم بالمزيد من المقاومة. كانت المعركة خاسرةً، فما الفائدة؟».
أثر الغياب
تتعمق تأملات البطل أكثر في أثر غيابه عن العالم من بعده، فيتخيل كيف ستبدو تبعات غيابه على مجتمعه وزوجته وأطفاله، وسط حيرته وإحباطه من عدم انتباه الركّاب «الغرباء» شركائه في السفينة لاختفائه وإنقاذه، متأملاً في غُبن كيف ستستمر الحياة ببساطة من بعده، كما لو أن وجوده لم يترك فراغاً. تُثقل ستانديش هذه الفكرة القاسية بوعيٍ جديد، وكأنه يطفو خارج صورته القديمة ليُعاين العالم بصفاء ما قبل الحياة.
تبدو الرواية القصيرة «سقوط جنتلمان» نص عن إنسان يقترب من رؤية الحياة بوضوح من يقف على حافتها، ويدرك أيضاً أن الحياة لا تُختبر إلا حين نفقد نظامها الرتيب. وفي هذا السياق يمكن القول إن جوهر العمل يدور حول عزلة الفرد في مواجهة العالم الذي يبدو كآلةٍ ضخمةٍ تقذف أفراده بلا عاطفة، ويتجلى البحر هنا كقوة وجودية تُعرّي الإنسان من طبقته وثقافته ومكانته، لتعيده إلى جوهره الأول… كائن صغير في مواجهة الأبد. ولكن تجربة «الجنتلمان» في الوصول لتلك الرؤى لا تُنتزع من الخارج، بقدر ما تُروى من داخل وعي رجلٍ يتفكك ببطء، فيصبح حادثاً عرضياً أقرب إلى اختبار فلسفي للإنسان الحديث الذي يفقد قدرته على المواظبة في حفظ النظام الراسخ من حوله، ويجد نفسه مضطراً لأن يواجه عالمه الداخلي الأوسع، بحس لا يخلو من شجن واستبصار: «أخيراً، تساءل ستانديش، من دون سبب وجيه، عن الفرق المدهش في هذا المحيط بين الفجر والشفق».
صدرت الترجمة العربية لرواية «سقوط جنتلمان» أخيراً بتوقيع المترجمة المصرية إيناس التركي عن دار «الكرمة» بالقاهرة.
صحيفة الشرق الأوسط اللندنية



