
إسطنبول –تركيا| ما إن لامست عجلات الطائرة أرض مطار صبيحة الدولي حتى شعرت بأنني أدخل بوابة تحمل تاريخًا وقصة. سُمّي المطار على اسم صبيحة كوكجن، أول امرأة تركية تقود طائرة حربية، وكأن حضوره يعلن منذ اللحظة الأولى أن إسطنبول مدينة تصنع التاريخ، ولا تكتفي بروايته. يقع المطار على الجانب الآسيوي من المدينة التي لطالما كانت نقطة التقاء بين حضارتين، وحملت عبر القرون أسماء متقلبة مثل موج حائر: بيزنطة، القسطنطينية، الأستانة، وأخيراً إسطنبول.
هذه المدينة التي تمتد على قارّتين تنبض بالحياة، إذ يقطنها خمسة عشر مليون نسمة، ويرتفع العدد إلى عشرين مليونًا إذا ما أضفنا إليهم الزوّار والسياح ورجال الأعمال. ازدحام المطار كان أول المشاهد التي استقبلتني، تليه الحافلات التي تنتظر أفواج السياح، وغالبيتهم من روسيا والدول العربية.
استقليت سيارة أجرة قطعت بي مسافة خمسة وثلاثين كيلومترًا، لأجد نفسي في مدينة لا تشبه إلا نفسها، مدينة تفيض بالمرافق السياحية: فنادق شاهقة، مطاعم تعبق بالروائح الشرقية والغربية، ومجمعات طبية باتت تشكل ما يسمى بـ السياحة العلاجية التي أصبحت رافدًا اقتصاديًا ضخمًا، حتى بلغت عائدات السياحة في تركيا 61 مليار دولار عام 2024. وبرغم جودة البنية التحتية، إلا أنني شعرت بأن الثقافة السياحية والإدارة لا تزالان بحاجة إلى تطوير، وتمنيت لو تُفصل السياحة الطبية قليلًا عن البعد التجاري، ليعود الطب إلى أصله الإنساني.
خلال رحلتي، زرت أماكن لا يسعني ذكرها كلها، لكن من أبرزها صبنجة والمعشوقية، حيث الهدوء يغمر البحيرة، والخضرة تمتد حتى يلامس طرفها السماء. وفي يوم آخر، حملتنا العبّارة عبر بحر مرمرة نحو جزر الأميرات التسع؛ تلك الجزر التي شهدت عبر التاريخ قصصًا مؤلمة، إذ كانت منفى لأمراء وأميرات خشيت منهم السلطة
وفي المساء، وبينما كنا نحتسي الشاي على ضفاف مضيق البوسفور، وقف أمامنا برج الفتاة شامخًا فوق جزيرته الصغيرة. يحمل هذا البرج حكاية أبّ أحب ابنته حبًا شديدًا، فرأى في حلم أن أفعى ستقتلها عند بلوغها الثامنة عشرة، فبنى لها برجًا في قلب البحر ليحميها من مصيرها. لكن القدر لا يُهزم بسهولة، فدخلت الأفعى مع سلة طعام، ووقع ما كان يخشاه. حكاية تختصر قسوة المصير وعمق الحب في آن واحد.
خرجت من إسطنبول بانطباع لا يُنسى؛ مدينة تجمع الشرق والغرب، التاريخ والحاضر، والفوضى التي تحمل في طيّاتها جمالًا خاصًا. أدركت أن السياحة ثروة حقيقية، إذا أحسنّا إدارتها واستثمرنا ما ينقصها. بلداننا العربية، الغنية بالمعالم والتاريخ، تحتاج إلى هذا الوعي، إلى دعم السياحة وتطويرها، فهي كنز لا يزال ينتظر من يفتح أبوابه على العالم، وينشر ثقافتنا ويعود بالنفع على اقتصادنا.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة


