فن و ثقافة

فرح الهاشم تُنصت إلى «هرتلة القاهرة»

المنذر الدمني

يكاد الحضور في المهرجانات السينمائية اليوم يتقدّم على صالات العرض والوصول المباشر إلى الجمهور؛ إذ باتت معايير نجاح الفيلم تُقاس بعدد مشاركاته في المهرجانات العالمية والجوائز التي يحصدها.

 

يكاد الحضور في المهرجانات السينمائية اليوم يتقدّم على صالات العرض والوصول المباشر إلى الجمهور؛ إذ باتت معايير نجاح الفيلم تُقاس بعدد مشاركاته في المهرجانات العالمية والجوائز التي يحصدها.

هذا التحوّل خلق سلطةً رمزية تُكرّس الفيلم ضمن سياق معين، وتفرض عليه علاقة مختلفة، بحيث لم يعد جمهوره الطبيعي هو المعيار الأساسي لنجاحه. يتجلّى هذا الأمر في مشهد السينما الوثائقية العربية المستقلة، حيث تُحتجز أفلام كثيرة داخل دورة المهرجانات لسنوات، ولا يصل صداها إلى الجمهور إلا عبر الصحافة وأخبار الجوائز.

وعندما تصل أخيراً إلى الناس تكون لحظتها قد تجاوزت زمن صناعتها وراهنيتها، فتتحوّل إلى أفلام «متحفية مهرجانية» أكثر منها أعمالاً حيّة تتفاعل مع مجتمعاتها.

«هرتلة» خارج قاعات العرض

تأثّرت الصناعة وصناديق التمويل بهذا المسار، بل أسهمت في تكريسه. وفي مواجهة واضحة لهذه السياسة، تطرح المخرجة اللبنانية–الكويتية فرح الهاشم فيلمها الجديد «هرتلة في القاهرة» (72 دقيقة) على يوتيوب خارج قاعات العرض وفضاءات المهرجانات، ليقترب من 250 ألف مشاهدة خلال شهر واحد من نشره. خطوةٌ تعيد فتح السؤال الضروري أمام صنّاع السينما حول معنى الوصول إلى الجمهور، وقيمة الفيلم الحقيقية ضمن معايير جديدة ومستقلة.

توجّه فرح الهاشم رسالةً وجدانية وشعرية إلى مدينة القاهرة. تحمل كاميرتها وتتجوّل في شوارعها ومقاهيها، تتحاور مع ناسها وفنانيها ومثقّفيها، تستمع إلى موسيقاها وتستعيد ذاكرتها السينمائية والثقافية. تكسر الخط الفاصل بين الماضي والحاضر، وتعبر — بحبّها وكاميرتها — الزمن في سردٍ يتدفّق بالأسئلة.

في شوارع القاهرة

تدخل الفضاءات العامة، وتسأل عن السياسة والحرية والوطن، عن الهوية والثورة، والرغبة والفن والعمل، والحقيقة وسط ازدحام السرديات.

تسأل عن الحرب وأثرها، ومساحة حريتنا داخلها، وخصوصية القاهرة في علاقتها بمدن المنطقة: دمشق وبيروت والقدس. تكشف وجوهها القاسية؛ و«سلامها» مع إسرائيل، واقتصادها المهدّد بالانهيار، والزيف الهشّ الذي يطفو على سطح واقع متقلّب. كلّ ذلك تقدّمه الهاشم بطابعٍ شعري مدفوع بسحر المدينة ورغبةٍ لا تهدأ للتعرّف إليها، ولكن ضمن إيقاع الهَرتَلة؛ ذلك التدفق الحرّ، المتشعّب، غير المنضبط، الذي يصنع موسيقاه الخاصة ويمنح الفيلم صدقه ووعيه ودفئه.

الهرتلة كحامل للسرد

تشكّل الهرتلة الحامل الأساسي لخطوط السرد في الفيلم، فهي إيقاعه ومنطقه الداخلي. يقوم البناء السردي على خطّين رئيسيين: سرد المخرجة الشعري عن المدينة وتجربتها الذاتية فيها، واستحضارها لماضيها وإرثها؛ وسرد أبناء المدينة عنها، الذين تنتقل بينهم المخرجة بكاميرتها وفضولها، متنقّلة عبر فضاءات القاهرة لتسجّل وتوثّق هرتلتهم عن السياسة والحرية، عن المدينة والحلم. هكذا يطفو إيقاع الفيلم ويتشكل وفق إيقاع الهرتلة نفسها؛ لدى الشخصيات ولدى المخرجة معاً.

في اللهجة المصرية تعني «الهرتلة» الكلام الكثير غير المرتّب، أو الكلام الذي لا معنى له. إلا أنّ المخرجة تقدّم معنى آخر للهرتلة منذ افتتاح الفيلم. تقول: «نود الإشارة إلى أنّ الهرتلة هنا مفيدة للصحة، ونحتاج إلى جرعة من الهرتلة العبقرية كل يوم حتى نتمكن من العيش بسلام. نشكر كل من أسهم في صناعة هذا الفيلم الخيالي».

بهذا الإعلان الافتتاحي ندخل إلى الفيلم عبر معنى خاص تصنعه المخرجة للهرتلة المصرية. معنى ينقلنا إلى عالمها الخيالي الواقعي، إلى تدفّق الكلام بلا توقف أو ترتيب. كلامٍ لا يسعى إلى الفعل بل يتشكّل كفعلٍ بحدّ ذاته. ومع ذلك، لا تقدّم المخرجة هذا الطرح بنبرة نقدية سلبية، بل تغلّفه بسحر جمالي يمنح الهرتلة قيمتها الشعرية، فيما يظلّ النقد مختبئاً داخل تناقضاتها وتفاصيلها الدقيقة.

في النهاية، يقدّم فيلم «هرتلة في القاهرة» قراءة خاصة لمدينةٍ تعجّ بالأصوات والتواريخ والطبقات المتداخلة. فهو لا يبحث عن الإجابات بقدر ما ينصت إلى ضجيج الأسئلة، ولا يسعى إلى تنظيم العالم، بل إلى التقاط ارتباكه وافتتانه معاً.

استخدام الهرتلة ليس حيلة سردية فحسب، بل موقف جمالي وسياسي يتيح للكاميرا أن تتخفّف من ثقل اليقين وتقترب من نبض المدينة كما هو؛ خاماً، متكسّراً، ممتلئاً بالحياة.

بهذا المعنى يصبح الفيلم مساحةً للتأمّل في معنى الكلام ذاته: كيف يمكن للفوضوي، للمرتجل، للمتشعّب، أن يتحوّل إلى وثيقة حساسة عن مدينة وناسها؟ وكيف يمكن للهرتلة، بما تحمله من هشاشة وحرية معاً، أن تفتح باباً جديداً للتفكير في علاقتنا بالمدن، وبالسينما، وبالحقيقة نفسها؟

يشكّل الفيلم دعوةً لإعادة النظر في طرق السرد، وفي معنى الوصول إلى الجمهور، وفي قدرة السينما — خارج المهرجانات وخارج شروط الصناعة — على إعادة اكتشاف أصواتنا المتناثرة بوصفها مادة أصلية للحياة والفن.

* «هرتلة في القاهرة» متوافر على يوتيوب

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى