
كم تحتاج الخرافة من طاقة كي تستطيع أن تتحكم بالتاريخ الماضي كمحرك للحاضر الراهن؟ وكي لا يكون جوابك على هذا السؤال ترددا ايديولوجيا إذا قلت أن المسار الإسرائيلي في صنع التاريخ أبلغ مثال. للابتعاد عن الإيديولوجيا عليك التمعن بما جرى حوالي قبل أسبوع عندما سئل نتنياهو: (أي كتاب تقرأ؟) فأجاب مباشرة (أقرأ كتابا لمؤرخ اسمه باري ستراوس. واسم الكتاب “اليهود ضد روما”). مؤكدا (أننا خسرنا أمام روما. ولكن لن نخسر المعركة بعد الآن). اللافت أن هذا الكتاب صدر حديثا في 2025. وأن التقاط نتنياهو له يحمل أبعادا كثيرة غير دأبه على قراءة كل جديد، لأن في معاني الكتاب مكر في التقاطه أيضا. كما أن في الكتاب واختياره من قبل نتنياهو ما يشكل نموذجا للإجابة على السؤال الأساسي حول الخرافة والتاريخ وتأثيرهما في الحاضر.
يقدم الكتاب سردا لما يسميه “الانتفاضات اليهودية الكبرى ضد روما” من عام 63 قبل الميلاد حتى العام 136 ميلادي، حيث أدت هذه الانتفاضات إلى هزيمة كارثية لليهود، وإلى هدم الهيكل المزعوم حسب ستراوس. لكنها بالمقابل وبسبب ما حدث أججت لدى اليهود ما سماه الكاتب (النار الروحية) المتمثلة في الإيمان والدين والهوية اليهودية التي تحولت بعد الكارثة إلى استراتيجية بقاء ديني ثقافي، وبروز دور الدين والحاخامات في قيادة المسيرة اليهودية التي أدعاها وزينها ستراوس بهالات خرافية.
اعتمد ستراوس في كتابه على الأسلوب الدرامي البسيط وعلى التمثيل لإظهار الأحداث. فجاء كتابه شعبيا لأن الخرافة تملك أبعاد سحرية إيهاميه. فقد قام ستراوس بأخذ هذه الأحداث التاريخية، التي رواها المؤرخ القديم يوسيفوس المعروف بتأييده لروما في كل ما قامت به ضد اليهو،. وكل ما فعله ستراوس أن حرف زاوية النظر للأحداث وسردها كأحداث بطولية لليهود بعد أن كانت أحداثا بطولية لروما. وهذا التحويل في زاوية النظر أنجزه ستراوس باستخدام الخرافة، أو بفعل “تخريف التاريخ” إن جازت التسمية. عبر الخرافة خلق بطولات وهمية كقصة انتحار اليهود المتحصنين بقلعة مسعد’ “مسادا”، والتي عبر فيها عن تمسك اليهود بكرامتهم وتضحيتهم بأرواحهم كي لا يستسلموا. وهناك كثير من المؤرخين يعتبرون هذه القصة وهمية وغير حقيقية، لكنها تكرست كتاريخ وتحولت خرافتها إلى أحد عوامل الهوية اليهودية، وسوقت من قبل الصهيونية بمثابة “المحرقة الأولى”. وولدت طاقة في النفس اليهودية في إطار مسار تاريخي معبد بالخرافات المماثلة.
من كل مراجعات حول هذا الكتاب يتضح أنه مصمم لجعل التاريخ القديم في خدمة الحاضر الراهن. وأكثر ما تتجلي خدمة الحاضر في ترسيخ السياسة الصهيونية العاملة في تكريس هوية الدولة اليهودية القوية لإسرائيل. كما تتضح خدمة التاريخ الحاضر بالتركيز على أن الهزيمة أمام روما لم تكن فقط بسبب قوة وعظمة روما، بل أيضا كانت نتيجة الانقسامات الحادة بين اليهود أنفسهم حيث قاتل اليهود بعضهم بعضا، وارتكب البعض مجازر بشعة بحق بعضهم الأخر. وتوضيح دور هذه الانقسامات في الهزيمة أمام روما يخدم حكومة نتنياهو تجاه الانقسامات الحاضرة في المجتمع الإسرائيلي حيال سياساته. وهكذا فإن الخرافة لا تحول التاريخ إلى حكايات بطولة درامية متخيلة وهمية فقط بل تدخله إلى الحاضر لتعالج عبر الخرافة مصاعب الحاضر الراهن. ويمكن للمراقب أن يستنتج أن سبب إعجاب نتنياهو بالكتاب ليس لأنه يزوده بسلاح الخرافة الممتد بأعماق التاريخ فقط، بل لأنه يخدمه في السيطرة على الحالة السياسية الراهنة. وهكذا فإن نتنياهو يضيف خبثه إلى خبث ستراوس للاستناد إلى “تخريف التاريخ” في خدمة مشروع الدولة اليهودية، وجعل هذا التخريف الخبيث فاعلا في خدمة بقاء نتنياهو في سدة الحكم واستمراره في قيادة هذا المسار. فمن يقرأ ما سرب من كتاب طلب العفو الذي قدمه نتنياهو قبل أيام يحس أنه يقتبس من كتاب ستراوس، خاصة في موضوع الانقسامات بين اليهود وتأثيرها في الهزيمة الكارثية. وكي لا يخرج عن الخرافة سجل نتنياهو في طلب العفو، المؤلف من 111 صفحة، أن إلغاء محاكمته وتركه ليرتاح من الملاحقة القضائية سيضمن للمجتمع الإسرائيلي الوحدة والقدرة على مواجهة المخاطر التي تحيق به. تصوروا راحة نتنياهو من الملاحقة هي ضمان وحدة وقوة المجتمع كله. فهل من خرافة أكبر من أن يجعل أي زعيم من نفسه القوة الموحدة لمجتمعه. وهو بالوقت ذاته أصل الانقسامات المسببة لهذا الضعف. نتنياهو بفعل الخرافة التي يلبسها لنفسه يحول ذاته إلى “ملك مخلص”. أي أنه يعلن نفسه دكتاتورا مقدسا. وقدسيته تتمثل بامتلاكه قوة الخلاص لشعبه كما يدعي. وللأسف فإن هذه الخرافة موجودة في دكتاتوريين كثر. ويكفي أن يتلفت المرء حوله ليرى مدى انتشار هذه الخرافة وديكتاتوريها.
البطولة في الانتحار كما صورها ستراوس لما حصل في قلعة مسعدة “مسادا” ليست إلا وهما كما أسلفنا لأن كثر من الباحثين يجزمون أنها لم تحدث، بل هي مجرد أوهام اسطورية تحولت بفعل الصهيونية إلى خرافة مؤسسة للهوية القومية والدينية التوسعية. كذلك فإن طلب العفو الذي تقدم به نتنياهو لم يستند إلى القانون الإسرائيلي، ولم يف بمتطلباته القانونية من اعتراف بالذنب وطلب المسامحة وتعهد بالتنحي، بل جاء بأسلوب الخرافة حيث بنى نتنياهو طلبه على خرافة أنه “منقذ إسرائيل ونبيها المخلص” وأن انهاء ملاحقته القضائية يضمن للإسرائيليين استعادة وحدتهم. كما يضمن لهم بوجود نتنياهو القدرة على مواجهة المخاطر والانتصار حتى على روما الجديدة.
تصوروا دولة يمثلها رجل (نتنياهو) يستمد الهوية القومية الدينية من أوهام وخرافات مزعوم وقوعها قبل ألفي عام. ويبرزها في الحاضر في طلب العفو كخرافة حديثة تجعله “النبي المخلص”. فعلا هو المكر الخبيث للخرافة. مكر يجعل الخرافة لا تحتل أرض الغير فقط بل تحتل وتستعبد السياسة والعلوم والتكنولوجيا والعصر لتبقى هي (الخرافة) المستوطن الأخطر في عصرنا خاصة. وخاصة وأنها تسعى لهزيمة “روما” كما قال نتنياهو.!!!
بوابة الشرق الأوسط الجديدة


