سيد زيّان.. المحطة الأخيرة لرحلة غرائبية
هذه المرة تأكد الخبر من مصادر أصيلة ورسمية: أتمّ سيد زيان الرحلة بعد أن مرّ سريعاً بالمعادي، وتوقف طويلاً فى بعض محطاتها «الغرائبية». جاء إلى الضوء الكثيف من ظلال قاتمة: متطوعاً في الجيش بداية الستينيات، فمتدرباً فى معهد الطيران على أطراف الضاحية الأهدأ: حلوان. وهناك يلفت نظر رفاقه بوحشية الجسد والصوت ورقة الممازحة والسخرية. في الخيم المجهّزة سريعاً، يسمع لأول مرة عن «المسرح العسكري» الناشئ، لتصبح غاية فني طائرات الهيلكوبتر أن تكون وحدته العسكرية قريبة، حتى يتسنى له أن يلتحق بتلك الفرقة. وقتها كانت فرق المسرح في توسّع مضطرد، والمسرح العسكري أردف المسرح المصري بعدد لابأس به الممثلين، بعضهم وصل إلى نجومية لافتة. المدهش أن غالبيتهم العظمى كانوا «كوميديانات»، في المسرح العسكري.
اكتسب سيد زيان لقبه الأول الشهير» القرد كثيف الشعر»؛ لم يكن للقب علاقة بمسرحية يوجين أونيل، ولا لعالمها الذي يهاجم توحش المجتمع الرأسمالي في مواجهة العمال والمعدمين. كان السبب، جسد سيد الذي يغطيه الشعر بكثافة هائلة، مزاح «القشلاق» ـ مهجع الجنود ـ وصم سيد لفترة طويلة، وهو تقبله بسخرية للذات تغلبت على «مناكفات» الأقران، والرؤساء، حتى أضحى «القرد كثيف الشعر» مشهوراً، داخل الجيش. ثم فاضت الشهرة إلى الخارج، ومعها بدأت تنزوي حرارة «أحسن جيوش في الأمم جيوشنا» وتشتعل جمرة المسرح مكانها، فكان قرار الاستقالة من الجيش، لتبدأ مغامرات: مسرح الهواة، ومسرح التلفزيون، وكومبارس السينما والتلفزيون، حتى جاء «زربيح»، الدور الذي قدّم «القرد..» عبر مسرحية «سيدتي الجميلة» لجمهور المسرح أولاً، ثم لجمهور التلفزيون. والمسرحية من أبرز نماذج «الاقتباس والتمصير» في تلك الفترة، فهنا ما تكاد «بجماليون» برنارد شو أن تظهر حتى تضمحل، كما تخفت نسخة برودواي الممسرحة موسيقياً. الاقتباس والتمصير ملمحان رئيسيان شديدا الأهمية في تاريخ المسرح والسينما في مصر، وفي حالات ليست قليلة تنجح النسخة في إخفاء الأصل لحد كبير. شخصية «زربيح» ألصقت طويلاً بسيد زيان: الكائن البسيط المحدود الذكاء، المتلعثم، الحوشى، الذي يحاول أن «يتفلسف»، ويتأنق، ويتشجع، لكنه لا يفلح بالطبع. وهو موقف كوميدي «نمطي» برع فيه زيان، ولم يحاول أن يتمرّد عليه، وظلّ وفياً له، سواء أكان يقدّم شخصية كوميدية، كما في «سيدتي الجميلة»، أو مسلسلاً اجتماعياً طامحاً لمعالجة قضية «سياسية – ثقافية»، كما في «الراية البيضا» ـ 1988 ـ حيث يؤدي شخصية «النونو»، أو في مسلسل تاريخي «عمر بن عبد العزيز» ـ 1994 ـ حيث لعب دور «اللص، الأفاق» الذي يصبح عاملاً عادلاً في بيت المال بتأثير شخصية الخليفة.
كان ظهور زيان في «سيدتي الجميلة» في شخصية «زربيح»، في نهاية العام التالي للنكسة، على المسرح لحوالى أربعة أشهر، ثم عرضها في التلفزيون في ربيع العام التالي، بداية واعدة للغاية للشاويش السابق في سلاح الطيران، وكانت المسرحية قمة عالية في موجة بروز ما سُمّي بمسرح «القطاع الخاص» حيث لعب بهجت قمر وسمير خفاجة وفرقة «الفنانين المتحدين» دور الريادة المستأنفة لفرق المسرح «الخاص»، بينما مسرح التلفزيون ومسرح الدولة في بداية منحنى الهبوط.
ببطء نمت مساحة أدوار زيان في المسرح والسينما والتلفزيون من دون تغيير كبير في طبيعة الأدوار المسندة له، وبعد نحو عقدين وضع اسمه أعلى إعلانات عدد من المسرحيات كـ «بطل» دون أي تغيير ملحوظ على طبيعة الأدوار التي يلعبها، لكنه في السينما والتلفزيون لم يدنُ من «البطولة» كثيراً، وفي كل الأحوال كان غزير المشاركة في المجالات الثلاثة مع أنه لم يبلغ مكانة زميله في المسرح العسكري: حسن عابدين، الذي قارب لفترة مكانة الصف الأول وترك أثراً ملحوظاً على المسرح والشاشتين.
في العقد الأخير من عمره مرّ زيان بثلاث محطات «غرائبية» الملامح، المرض، وعقوق الأبناء، وأعجوبة الشفاء والزهد.
رسمت تلك المحطات مع مساره السابق لوحة حياته الفنية والشخصية المثيرة للتأمل، بداية تحيلنا تلقائياً لمسرد حياتنا السياسي والاجتماعي بتحولاته الصادمة: ذروة الثقة بالذات، الهزيمة، لعق الجراح، محاولة الصمود. هذه محطة ما قبل المسرح، حيث كانت اللافتات المسرحية أكثر من أن تعد وكل منها تبدو واعدة، إنها أجواء تراجيدية بامتياز، ختمها زيان بالاستقالة والوفاء لجمرة السخرية من الكائن الضخم محدود القدرات، إنها كوميديا «فارص» تليق بالعقدين التاليين من حياتنا، المرض طال لنحو عقد تالٍ: شلل، وغيبوبة شبه تامة، وعقوق أبناء أقرب للميلودراما معاكس لروح وأجواء «لير»، ثم إفاقة ذات ملمح غيبي، قيل إنها «معجزة، أعجوبة» استدعت رواية دينية، صوفية، تبدو ملامح «الاصطناع» فيها ظاهرة، ولم يشأ سيد زيان، أو فلنقل وقائع حياتنا، إلا أن تمر بملمح من «العبث واللامعقول»، ليتمّ مرتين خلال السنوات الخمس الماضية إذاعة خبر وفاته ليعقبه نفي.
لكن هذه المرة يبدو الأمر مؤكداً: تمّت الرحلة، وحلق زيان، وبقي أثر الأيام لمقبل الأيام.
صحيفة السفير اللبنانية