«صدمة الصين» التجارية تتلف حسابات ترامب وساندرز
قبل 15 عاماً، الرأي الاقتصادي الشائع كان أن التجارة الحرة هي فكرة جيدة بشكل لا لبس فيه. فيما يلي المنطق الأساسي الذي كانت تقوم عليه. هناك طريقتان ليتمكن البريطانيون من السيطرة على النبيذ. بإمكاننا زراعة وعصر العنب الخاص بنا، أو بإمكاننا صناعة شيء يُريده الفرنسيون والتبادل معهم. إذا كنّا بارعين في صناعة، مثلاً، ألعاب الكمبيوتر وكان الفرنسيون بارعين في صناعة الجعة، عندها فإن التبادل هو أفضل طريقة للحصول على ما نريده.
ترامب، على سبيل المثال، قال مازحاً بشكل صريح: “لم نعد نفوز بعد الآن. لم نعُد نهزم الصين في التجارة. لم نعُد نهزم اليابان.. لا نستطيع هزيمة المكسيك، سواء على الحدود أو في التجارة”. وكان ساندرز قد عبّر عن مخاوفه بدقّة أكثر قليلاً بقوله: “في حين أن الاتفاقيات التجارية السيئة ليست السبب الوحيد في تراجع وظائف التصنيع في الولايات المتحدة، إلا أنها عامل مهم”.
هذان الرجلان تفوّقا بشكل كبير على التوقعات في حملات الانتخابات التمهيدية. هناك أسباب كثيرة لذلك، لكن التفسير الأبسط ربما يكون أن التجارة الأكثر حرّية أسفرت عن خسائر أكثر خطورة مما توقع مختصو الاقتصاد، وأنا من بينهم.
الفكرة، بحسب طريقة ترامب، أننا يُمكن أن “نهزم الفرنسيين في التجارة” تبدو جذابة لكنها غير متماسكة. وفي حين أن شخصا بريطانيا على شاكلة ساندرز قد يُشير إلى فقدان الوظائف في صناعة ما في المملكة المتحدة، إلا أن ذلك يُمكن أن يؤدي إلى تفويت المكاسب في صناعة البرمجيات. هناك اختلاف اقتصادي قليل بين الرسوم الجمركية على واردات المشروبات الفرنسية والرسوم الجمركية على صادرات البرمجيات البريطانية.
فيما يلي مثال يُحبّه مختصو الاقتصاد. يُعلن أحد أصحاب المشاريع عن إنجاز جديد في مجال التكنولوجيا: لديه آلة تستطيع تفكيك أقراص ألعاب الكمبيوتر وإعادة تشكيل الذرّات إلى مشروب فاخر، فيقوم بتأسيس مصنع على ساحل كينت مع الآلة في الداخل. ألعاب الكمبيوتر تدخل وصناديق الجعة تخرج، لكن بعد ذلك، مُحقق صحافي من “فاينانشال تايمز” يتمكّن من الدخول إلى المصنع ويجد أنه لا توجد أي آلة – مجرد حوض سفن، حيث مُشغّل شاحنة برافعة شوكية يُحمّل بنشاط الجعة الفرنسية من قارب، ويستبدلها بألعاب الكمبيوتر للتصدير إلى السوق الفرنسية. هل ينبغي أن نهتم؟ من وجهة نظر البريطانيين، أليست فرنسا مجرد تكنولوجيا لتحويل ألعاب الكمبيوتر إلى جعة؟
مع نماذج رسمية لدعم هذا النوع من القصة، اتّخذ معظم مختصي الاقتصاد الرأي الذي مفاده بأنه عندما تقوم البلدان بتخفيض حواجز التجارة فيها، حتى من جانب واحد، فسوف تزدهر. ما تخسره صناعة الجعة البريطانية، تكسبه صناعة ألعاب الكمبيوتر في المملكة المتحدة. في الوقت نفسه، يحصل المستهلكون على جعة أفضل وأرخص ضمن الصفقة. دائماً ما كان واضحاً أنه على الرغم من طبيعة الفوز لكلا الطرفين في التجارة على المستوى الوطني، إلا أن التجارة الحرّة أكثر يُمكن أن توجد خاسرين – مثل الكروم البريطانية واستديوهات ألعاب الكمبيوتر الفرنسية، لكن الرأي الشائع كان أن هذه الخسائر كانت صغيرة ويُمكن إصلاحها على حد سواء من خلال السياسات الصحيحة لإعادة الترتيب أو إعادة التوزيع. الأهم من ذلك، الناس الذين خسروا وظائفهم يُمكن أن يجدوا وظائف جديدة في صناعات التصدير المزدهرة.
على نحو لا يُمكن إنكاره، كان واضحاً حتى قبل 20 عاماً أن دخل الأسر المتوسطة كان راكداً في الولايات المتحدة، وعدم المساواة كانت ترتفع في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية، والتوظيف في قطاع التصنيع كان يتراجع بثبات، لكن كان يبدو أن هذه الاتجاهات تدين للتغيير التكنولوجي أكثر مما تدين للعولمة. لقد كنت أقوم بصياغة كل هذا “الرأي الشائع” بصيغة ماض، لكن بالنسبة للجزء الأكبر، التحليل لا يزال صالحا. مع ذلك، هذا الرأي يحصل على تعليقات مهمة ومُحبطة. ورقة بحث جديدة، بعنوان “صدمة الصين”، تأليف ديفيد أوتور، وديفيد دورن وجوردون هانسون، هي جزء من إعادة تفكير تجري في مهنة الاقتصاد.
يحاول أوتر وزملاؤه التركيز على أثر صعود الصين باعتبارها قوة تجارية. صعود الصين كان كبيراً، مدفوعاً بالكامل من تغييرات السياسة الداخلية داخل الصين، وكان له تأثير متفاوت على مختلف المناطق والصناعات. على سبيل المثال، ولاية تينيسي وولاية ألاباما كلاهما من مراكز التصنيع في الولايات المتحدة التي تعرّضت للمنافسة العالمية، لكن قطاع تصنيع الأثاث في تينيسي هو أكثر تعرّضاً للصين بشكل خاص مما هي قطاعات التصنيع الثقيلة في ألاباما. وهذا يُساعد الباحثين على معرفة ما كان تأثير صدمة الصين بثقة أكبر.
أوتر ودورن وهانسون استنتجوا أن العاملين الأمريكيين الذين تضرروا من المنافسة مع الصين قد تضرروا بشدة أكبر، ولفترة أطول، مما توقعه كثير من مختصي الاقتصاد. لقد تراجع التوظيف في الصناعات التي تتعرّض للمنافسة التجارية، كما هو متوقع، لكن لم يُظهر علامات كثيرة على الارتفاع في القطاعات الموجّهة نحو التصدير.
ويبدو أن سوق العمل في الولايات المتحدة هي أقل مرونة مما كنّا نعتقد. في نموذج اقتصادي مُبسّط، ينتقل العاملون بسلاسة إلى منزل جديد، وصناعة جديدة، وحتى مستوى جديد من التعليم. من الناحية العملية، يجد أوتر وزملاؤه أن المجتمعات التي تضررت من المنافسة الصينية غالباً ما لا تتكيّف؛ بل بل تتلاشى. قد يتطلب التكيّف جيلا أو اثنين، وليس بضعة أعوام.
على المدى الطويل، بالطبع، هذا التكيّف سيحدث – تماماً كما تكيّفنا مع تراجع العمل اليدوي الزراعي أو الحاجة إلى إصلاحات الآلة الكاتبة. على أن المدى الطويل هو أطول مما كان يخشى كثير من مختصي الاقتصاد. لذا من السهل معرفة السبب في أن الصبر قد نفد من أنصار ترامب وساندرز.
FINANCIAL TIMES