فن و ثقافة

غياب داوود عبدالسيد.. خسارة سينمائية كبرى

المخرج المصري الكبير يودّع الحياة بعد مسيرة فنية قاومت السطحية وانحازت للإنسان.

 

غيب الموت المخرج المصري الكبير داوود عبدالسيد عن عمر ناهز 79 عامًا، بعد صراع مع المرض، ليرحل واحد من أبرز صُنّاع السينما الواقعية والاجتماعية في تاريخ السينما المصرية، وصاحب مشروع فني متفرّد قاوم السطحية والاستسهال، وانحاز دومًا للإنسان الهش في صراعه اليومي مع الحياة.

ونعاه الدكتور أشرف الصباغ في أكثر من منشور عبر صفحته على فيسبوك، معتبرًا أن رحيل داوود عبدالسيد لا يثير الحزن فقط، بل الغضب أيضًا، لأن الجميع – على حد وصفه – يعرف أن المخرج الراحل لم يقدّم سوى القليل مما كان يمتلكه فعليًا، لأسباب باتت معروفة داخل الوسطين الثقافي والسينمائي.

ورفض الصباغ وصف عبدالسيد بـ”شاعر السينما”، مؤكدًا أن هذا اللقب ارتبط تاريخيًا بالمخرج الروسي أندريه تاركوفسكي، فيما رأى أن داوود عبد السيد هو “عازف الحزن المصري عبر الزمن”؛ صانع سينما تمزج بين الفكاهة والمرارة، والغضب والرحمة، وتتأمل الإنسان بوصفه كائنًا هشًا، لكنه قادر على مراوغة الحياة ومقاومة قسوتها.

وأضاف أن الإنسان في عالم داوود عبدالسيد السينمائي اكتسب ملامحه الإنسانية العامة، مع احتفاظه بخصوصيته الثقافية والاجتماعية، في معالجة درامية عميقة لتحولات المجتمع المصري وآلامه الممتدة.

وقد أسّس عبدالسيد لسينما مختلفة، ارتبطت فيها الصورة بالتركيبة النفسية والعمق الفلسفي، وقدّمت رؤية إنسانية–اجتماعية شاملة، أتاحت للمشاهد فرصة أوسع لفهم ذاته وأخطائه، والرفق بالإنسان في أسوأ لحظاته. سينما أضحكت وأبكت، وواست القلوب، ومزّقت الأرواح، ثم أعادت المتلقي إلى مرآة نفسه، ساخرًا من العنف والظلم والفساد والغطرسة.

كما نعاه السيناريست عباس أبوالحسن بكلمات مؤثرة، معتبرًا أن بعض البشر يكون وجودهم نعمة، إلى أن يأتي الموت “سارق الفرح” ليقتلعهم من جذور الحياة، مؤكدا أن داوود عبدالسيد ظل متمسكًا بأفكاره وقيمه عبر العقود، لم يساوم ولم يتراجع، وصمد في صمت “مثل الأهرامات”، مشيدًا بتواضعه وإنسانيته ودعمه الكبير لكل من عمل معه.

ومن جانبه، قال الإعلامي والصحفي محمود سعد في تغريدة عبر حسابه على منصة إكس إن فراق داوود عبدالسيد مؤلم، لأنه لم يكن مجرد مخرج كبير، بل فنان صاحب رؤية فنية خاصة، ومشوار سينمائي متميز إخراجًا وتأليفًا، وحبًا للفن والناس، مقدمًا تعازيه لزوجته الكاتبة كريمة كمال وأسرته ومحبيه.

أما الفنانة يسرا، فنعته بكلمات إنسانية مؤثرة، واصفة إياه بالصديق وصاحب العِشرة الدافئة، مؤكدة أن صداقته كانت صادقة مثل أفلامه “من غير تزييف”، وأن ذكراه ستبقى حاضرة بضحكته وحكاياته، وبالإنسان قبل الفنان.

وُلد داوود عبدالسيد في 23 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1946، وبدأ حياته السينمائية مساعد مخرج في عدد من الأفلام المهمة، من بينها “الأرض” ليوسف شاهين و”الرجل الذي فقد ظله” لكمال الشيخ، قبل أن يقرر التفرغ للإخراج وكتابة السيناريو.

وفي بداياته، اتجه إلى السينما التسجيلية، وقدّم أفلامًا اجتماعية لافتة، من بينها: وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم (1976)، العمل في الحقل (1979)، وعن الناس والأنبياء والفنانين (1980)، وهي مرحلة أتاحت له احتكاكًا مباشرًا بالمجتمع المصري بكل طبقاته، وانعكست بوضوح على أعماله الروائية اللاحقة.

ومن أبرز أفلامه الروائية: الصعاليك (1985)، البحث عن سيد مرزوق (1990/1991)، الكيت كات (1991)، أرض الأحلام (1993)، سارق الفرح (1995)، أرض الخوف (1999/2000)، مواطن ومخبر وحرامي (2001)، رسائل البحر (2010)، وقدرات غير عادية (2015).

وحصد داوود عبدالسيد عشرات الجوائز المحلية والدولية، من أبرزها جائزة العمل الأول عن الصعاليك (مهرجان أسوان الأكاديمي – 1985)، وجائزة الهرم الفضي عن أرض الخوف (مهرجان القاهرة السينمائي الدولي)، إلى جانب جوائز أفضل فيلم وأفضل إخراج من مهرجان جمعية الفيلم، فضلًا عن إدراج ثلاثة من أفلامه (الكيت كات، أرض الخوف، رسائل البحر) ضمن قائمة أفضل 100 فيلم عربي الصادرة عن مهرجان دبي السينمائي عام 2013، وتكريمه في مهرجان الجونة السينمائي عام 2018.

برحيل داوود عبدالسيد، تفقد السينما المصرية أحد أنقى أصواتها وأكثرها صدقًا، غير أن أفلامه تبقى شاهدًا حيًا على مشروع فني وإنساني نادر. رحل الجسد، وبقيت الروح في تفاصيل الصورة، ووجوه البشر، وحزن المصريين وضحكتهم… رحيلٌ، كما كتب محبوه، قرين البقاء.

ميدل أيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى