«أنا وأنتٍ وأمي وأبي» لعبد اللطيف عبد الحميد: دمشق بتوقيت الحرب

لا يشبه عبد اللطيف عبد الحميد (1954) أحداً في صوغ سينماه؛ دائماً يعيد ترتيب الحياة كفيلم من أفلامه الأحد عشر، وواهم من يفكر أن صاحب « ليالي إبن آوى» يقلّد الحرب أو الحب كواقع مستعاد للكارثة؛ بل إنه، لا سيما في شريطه الأخير «أنا وأنتِ وأمي وأبي» (100 دقيقة، انتاج مؤسسة السينما)، يضع العائلة السورية في ميزانها الشعبي؛ فيبحث لها عن ملاذ أو ملجأ؛ ويحتمي وراء ألبوم صورها الطيبة من ريبة المنشقين عنها؛ يعيد الجدَّ والجدّة والأم والأب والحفيد إلى قيد النفوس؛ فماله ومال العم «واتس آب» والجد «فيس بوك» والحفيد «تويتر» والخال «يوتيوب»؟ يصل حي (عين الكرش) الدمشقي بجبال وبحر اللاذقية؛ و(يشلفُ) كاميراه على طول ذراعه ليديرها رفّ حمائم شامية تحلق أعلى من قذائف الموت العبثية في نهارات دمشق.

صباحات العاصمة والجوري وساندويش الفلافل المسموم بضغينة ذوي القربى؛ الخصوم أهل، والأعداء جيران، والأصدقاء لم يتركوا خنجراً إلا وزرعوه حتى المقبض في صدور بعضهم. إنها دمشق بتوقيت الحرب أو قل بتوقيت القبلات المنهوبة على أدراج الأبنية بين جنديٍّ ومغنيّة؛ حيث تتكسر أضلاع الحبيبة عند «مطلع الفجر» بسيارةٍ مفخخة ويذوي الحبيب بعد قبلته الساخنة لشفاه محبوبته فوق بركةٍ من دم، إنها دمشق كما يراها صاحب «نسيم الروح» ملويةً وموثوقة اليدين إلى أقدام «تختها الشرقي»؛ بينما شعرها الطويل مشدود إلى جنازير الدبابات وحراب القتال القريب.

لا قرية ولا مدينة في شريط يجس نبض الاثنتين؛ سماعة هذا الطبيب السينمائي تمسّد جسداً وطنياً مثخناً بالجراح؛ لكنه لا يستكين لنعرات الطائفة والمذهب، ولا المنطقة أو العشيرة، لا الموالاة ولا المعارضة، صحيح أنه يرفع الصوت في وجه النخب الأكاديمية ونزواتِ شيوخ يسارها، لكنه أيضاً يعرف أن ثمة من عبث بأعصاب المدينة؛ فـ «أنا وأنتِ وأمي وأبي» لم يفكر بالكاميرا بقدر ما تعب بإدارة شخصياته أمامها، الأب المعارض – (سامر عمران) والأم الموالية ( سوزان نجم الدين) وابنهما ( طرفة – يامن الحجلي) الواقف بين جدّيه؛ الأول لأبيه من دمشق (حسام تحسين بك) والثاني لأمه من اللاذقية (بشار إسماعيل)، وبين هذا وذاك تقف الحبيبة (جولييت – مرام علي) بشعرها الطويل وشرفتها المطلة على شارع (روميو) المفخخ والمعدّ سلفاً لموت تنفجر معه رؤوس العشاق؛ وتتدلى الجثث كحبال غسيل أحمر لا يجف.

شريط مدّوٍ يستصرخ مونولوجات شخصياته دون ادعاء أو تزلف؛ فيترك الضغينة جانباً ليرفرف من جديد برسائل مكتوبة على ورق؛ حيث القاتل يحمل باقة الورد إلى حبيبة القتيل؛ والزوجة المركونة بمنامتها الشفافة تنام بعيداً عن زوجها (المُعارض)، ذلك الرجل (الحردان) والنائم بدوره على أريكة في صالون الأخبار؛ مطالعاً لـ «طبائع» الكواكبي عن الاستبداد، وليأتي الرد من أبيه: (من لا يقدر أن يحافظ على عائلة، لا يمكن له أن يؤتمن على وطن)!

فيلم الأسرة هذا ينسف الخطوط بين طرفي الصراع؛ دون أن يحطم الجدران، غالباً. (عبد الحميد) في هذا الروائي الطويل الذي كتب له السيناريو بنفسه؛ قد فضّل الصعقات الكهربائية لجسدٍ ينتفض ولا يعيش؛ فرغم الحب وطفولة الشخصيات ومرضها بالورد والأغنيات السورية القديمة؛ إلا أن ذلك لم يعف العاشقين من الموت تحت صيحات التكبير. المشهد الأخير هنا جاء صادماً وقاسياً للغاية، خصوصاً إذا عرفنا أن الشاب العاشق تجاوز النواميس من أجل استعادة حبيبته من عائلتها بعد أن أُجبِرت على السفر مع الشقيق – (جود سعيد) إلى تركيا. أجل لا نهايات سعيدة ولا ثبات ولا نبات؛ إنها الخاتمة الأكثر واقعية لكل هذا (الرومانس) ووجبات الفلافل المسمومة جيداً بلبن الثورة ومجاعات الحرية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى