عن العلمانية التي فاتتنا (2) (نصري الصايغ)

 

نصري الصايغ

في عودة إلى الوقائع، لا تظهر بدايات القرن العشرين ابتعاداً عن العلمانية، أو عن مشاريع الدولة المدنية، بتعبير ملطف للعلمانية الميدانية. وجاءت ترجمة ذلك في الدساتير أو مشاريع الدساتير، التي وضعها وأشرف عليها، بعض من نخب ثقافية أو اجتماعية أو حتى إقطاعية، استطاعت أن تنتزع مدنية الدولة، برغم الاعتراضات الخافتة وغير المؤثرة، لإسلاميين إصلاحيين.
جاء في المادة الأولى من دستور 1923 اثر ثورة 1919 ان مصر دولة مستقلة ذات سيادة، حكومتها ملكية وشكلها نيابي، ونصت المادة الثالثة على ان المصريين لدى القانون سواء، لا تمييز بينهم بسبب الأصل أو اللغة أو الدين، لهم حـق تولي المناصــب، مع ضمان حرية الرأي وحرية العقيدة، ونصت المادة 12 على أن حرية العقيدة مطلقة (فاروق القاضي ـ العلمانية هي الحل ـ ص 10).
حملت المادة 144 نصاً على ان الإسلام دين الدولة، ومن دلالات هذه المادة تغير الدولة بالشعائر البروتوكولية المتعلقة بإعلان شهر الصوم وصلاة رئيس الدولة الجمعة الأخيرة من رمضان في مسجد عمر بن العاص… لم تكن العلة في بيئة المدنية ومبادئ العلمانية، بل في النظام السياسي وبنية السلطة المؤتمنين على احترام الدستور. ومن غياب المساءلة الشعبية كذلك عن تطرف السلطة في ممارسة الاستبداد، عبر إسكات صوت الشعب، ما يحوّل الناس عن مطلب الحرية ويعتبرهم مجرد باحثين عن النجاة والسلامة، أكثر من صمم بناء دولة قوية، في مجتمع تمارس فيه قواه، صراعها من أجل التقدم. هذه علمانية قتلت بأيدي سلطات، رفعت لواء الأهداف الكبرى وما نجحت، ولكنها انتهزت، وقيّدت الشعب وقضاياه، وحرياته، وأمانيه، وتطلعاته، لخدمة أهداف قومية واشتراكية كبرى… باءت بالفشل واستمرت بالانتهاز.
من قتل العلمانية عندنا، بغير أيدينا، هم العلمانيون الغربيون، الذين قصروا العلمانية على مجتمعاتهم ومؤسساتهم وسياساتهم في دولهم، فيما نفذوا سياسة تقسيم البلاد والعباد، والعمل على تلميع النسيج الاجتماعي، بتزكية منطق المحاباة والاستتباع والإخضاع والتخويف.
كان من حق السوريين، الذين شاركوا في تحرير بلادهم من النير العثماني، ودفعوا دماً باهظا لنيل حريتهم، أن يحققوا ما كان قد اتفق عليه بين الحسين ومكماهون، في بناء دولتهم القومية، تأسيساً على دستور أو قانون أساس، يرتضونه ناظماً لحياتهم وحياة أمتهم ودولتهم.
من حقهم كان ذلك. لكن غورو، مندفعا بشهوة الاستعمار، المؤيد بقوى ديموقراطية وعلمانية أصولية فرنسية، أبقى هذا الحق، فدمر الجيش السوري الوليد، وأطاح وحدة الأرض، وقسّم البلاد تأسيساً على قاعدة المذاهب والأديان (لبنان المسيحي)، (ولد بعد ميسلون) جبل الدروز، دولة العلويين، دولة حلب، دولة دمشق…
قتل الفرنسيون هذه التجربة الوحدوية الديموقراطية المدنية الحديثة، وقرروا أن تقيّد هذه الكيانات على ذمة الأديان والطوائف والمذاهب. وإذا كان مشروع التقسيم المذهبي قد فشل في سوريا، بعد ثورتين اثنتين، بقيادة القائد الفذ سلطان باشا الأطرش، فإن من تولى السلطة في ظل الانتداب في سوريا، بعد فشل الثورة السورية الكبرى، كانوا من سلالة الأعيان والقيادات المدينية ذات الأصول الريفية. وحتى هؤلاء، فقد تم التنكيل بهم وإخضاعهم، بالكامل لسياسة الانتداب.
هذه مآثر الغرب فينا. أما مآثرنا المخزية فينا، فلا أقول فيها، إلا ما قاله الغزالي بعد شطحه، لحراجة الموقف وحراجة المشهد، في هذه الحقبة السوداء:
وكان ما كان مما لست اذكره
فظن شراً (خبرا) ولا تسأل عن الخبر
اثنان تناوبا على قتل العلمانية والحرية والديموقراطية والدولة، الاستبداد الخارجي والاستبداد الداخلي.
فالعلة ليست في المفهوم، بل في المعمول.
الحالة اللبنانية يمكن أن تكون نموذجاً لإفشال بناء الدولة المدنية، والدخول في ما لا مفر منه من التشتت، والتفتت.
حرص الأوائل، بعد إعلان الكيان الجديد للبنان، على وضع دستور عصري، ديموقراطي، مدني، ضامن للحريات والمساواة والمعتقدات والحياد إزاء الدين، بحيث جاءت صيغته، في حممها، دولة بلا دين وبلا خوف من طغيان أقلية على أخرى، وإغراء لأقليات ممتنعة عن الانخراط في المشروع اللبناني، الذي بدا في جوهره انفصالا عن سوريا الأم، بتدبيج المادة 95 التي نصت على المحاصصة الطائفية، موقتا، وعلى ألا تضر بالمصلحة الوطنية.
كان الدستور علمانياً، مطعوناً بمادة موقتة، التخلص منها يقتضي نضالاً وتذكيراً واستحضاراً… وهذا ما لم يحصل أبداً.
لم يعرف في تاريخ لبنان قبل حروبه، تأثير واضح لأحزاب من خارج السياق الطائفي والمذهبي. لم تخلق القوى المدنية والديموقراطية وقائع علمانية وديموقراطية. اكتفت بأن تخطب ود الطوائفيات السياسية وجماهيرها، مع إعلان في المناسبات، بمواقف لا أثر لها بعد التلفظ بها وإعلانها.
انتهت الحرب باتفاق الطائف الذي صار نصاً دستورياً. اتفاق الطائف هذا، من صنع طائفيين.
للأسف، الأحزاب والجمعيات اللاطائفية العلمانية، غابت عن مشهد الصراع العلماني الطائفي. فيما حضرت بكامل عدتها اللفظية وأحيانا العسكرية، إلى جانب طرفي النزاع والصراع الطائفيين.
لا وجود لعلمانيين صراعيين في لبنان، كما لا وجود لديموقراطيين نضاليين، كما لا وجود إلا لما يلغي وجود الكيان والناس.
لن أذم الطائفية والمذهبية. لقد فازت الطائفية في لبنان، بنضال طائفييها. ولقد تفوقت المذهبية بنضال وجهاد مذهبييها وأتباعها.
تميز لبنان، عن سواه، بأنه بلد حريات. لا نقص في الحريات، عندنا فائض منها، يكفي دولا وشعوباً. ولقد استفادت الطوائف من هذه الحريات، وفشلت أحزاب وعقائد ومنظمات، من مناخ الحرية. الطوائف في لبنان ناجحة ومتفوقة وصاحبة مؤسسات عملاقة في كل مجال. بينما لا نجد مؤسسة علمانية واحدة في أي قطاع من قطاعات المجتمع.
لقد أخفقت، وليس في سجلها من الإنجازات، غير زبد الكلام، وهو زبد على رمل. الرمل ظل، والزبد تبدّد.
قلة قليلة جداً، حفرت في الأسوار الطائفية ثغرتين اثنتين. الأولى: شطب الإشارة إلى المذهب، والثانية عقد زواج مدني سجل في لبنان.
نضال، استمر لسنوات. قابله العلمانيون الأصوليون باستخفاف وبسخرية. هم يريدون علمنة شاملة، غداً، والغد عندهم كأنه الآن. غريب جداً، ان الحفر في أساس النظام، لدك بنيانه، لم يلتفت إليه العلمانيون. بل أهملوه. اعتبروه مزحة.
يصعب عليّ الاعتراف بعلماني لا يشطب الإشارة إلى طائفته، ليتحرر منها، ويصير مدنياً وعلمانياً عن جد. يصعب عليّ تصديق علماني يستمر في تسجيل الزواج الطائفي في لبنان. علما أن شطب الإشارة هي الخطوة الصغيرة الأولى، التي تفتح الطريق للعلمانيين، ليصيروا قوة علمانية فعلية، مستقلة تماماً عن القوى الطائفية.
لا بد في هذا المجال من تهنئة رجال الدين وزعماء الطوائفيات، الذين كانوا ضد المشروع، لأنهم يعرفون كيف يدافعون عن مصالحهم وبشراسة مؤذية.
أما بعد…
يتبدى من سيرة العلمانيين ان بداياتهم في مطلع القرن العشرين كانت تدل على وعي بما تقوم عليه الدولة القوية الديموقراطية المدنية والمعبرة عن تطلعات الشعب في الحرية والاستقلال والسيادة. يمكن رصد ما يلي من خلال مسارهم:
أ ـ الوحدة لا الانفصال، التحرر لا التبعية، الاستقلال لا الاحتلال، الحرية لا الاستعباد، الديموقراطية لا الديكتاتورية، الانتخابات لا الوراثة، المساءلة لا العقد. وهذه أمور جلية في الوقائع الدستورية والسياسية.
ب ـ وفقوا بين الدين والدولة عبر الحياد ما أمكن، والفعل ما أمكن، والتعاون حيث يجب (الأحوال الشخصية) وهذه بدعة جميلة وناجحة، بنت الخصوصية العربية، وهي جديرة بأن تقيّم وتثمن. فمبدأ الحرية لا يقصي المتدينين وحقهم في اتباع محاكمهم الشرعية، على ان تكون مرجعيتها مدنية الدولة.
ج ـ خاضوا معركة حقيقية من أجل مدنية الدولة، في المجال السياسي والحقوقي. لم يتورطوا في صراع علماني/ ديني، أو مدني/ ديني. وهذه فضيلة تحتذى. فمعركة العلمانيين ليست مع الدين وضد الدين، بل في السياسة وفي التربية. المعركة مع الدين خاسرة حتماً.
د ـ فشل الدولة المدنية وقيام الدولة البوليسية، تأتى من خلال ما تعرضت له فلسطين من محنة، وما تعرضت له الأمة من تقسيم. أولوية البناء الداخلي، تقدمت عليها أولوية مواجهة العدوان الإسرائيلي، اما جدياً أو انتهازياً. وفي المحصلة، لم تقدر الدول الناشئة على وضع الأولويتين في مقام الأساس السياسي: غيرنا فعل ذلك. بنى دولة وقاتلنا. نحن لم نصل. بنينا سلطات ولم تنجح، لا في رد العدوان، ولا في بناء علاقة طبيعية بين الشعب ودولته وسلطاتها.
هـ ـ الاستبداد أطاح الأولويات القومية والوطنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبدا النظام في مرتبة العداوة.
وفي خلاصة لهذا المسار يمكن قراءة ما يلي:
العلمانيون الأوائل، الذين انخرطوا في النضال العملي، لم يشعروا بحراجة أبداً. لم يستعملوا مفهوم العلمانية، لكنهم مارسوه، آخذين بعين الاعتبار بنية الثقافة الاجتماعية. حرصوا على تحييد الدين، ولقد نجحوا في ذلك، طمأنوا الجماعات إلى مواطنية أتباعها. ونجحوا في رسم معالم الدولة الديموقراطية المدنية.
لكن اغتصاب مقادير الأمة والكيانات، أطاح كل المكتسبات، لو عدنا إلى قراءة أسماء اللجان التي ساهمت في وضع الدساتير في لبنان وسوريا ومصر والعراق، لوجدنا أساساتها الثقافية، تبز من حيث العلم والمعرفة والاختصاص، ما يفوق الكثيرين منا، الذين تفوّقوا في التبرير أكثر من البناء.
أين نحن الآن؟
لا جواب. نحن في ذروة العجز.
الجواب النظري الضعيف، يقول. هذه ساعة العمل من أجل المستقبل. من وسط الركام والدمار. يجب ان يطلع صوت جليل يقطع مع أصوات الظلاميات نهائياً. من دون هذه القطيعة لا مجال للتأسيس.
كل الظروف الراهنة، المأساوية، تدفعنا لفعل شيء مختلف. شيء للمستقبل. بهدف إقامة دولة ديموقراطية، واحدة موحدة، قوية.
في هذه الأثناء، انصرف إلى التفاصيل الأساسية: الاهتمام بشطب الإشارة إلى الطائفية، معركة الزواج المدني، قانون الأحوال الشخصية، إعطاء الجنسية لمن يستحقها، الكتابة ضد الظلاميات كافة، الدفاع عن حرية الرأي، مقاومة كل أشكال التطبيع، وإلى جانب المقاومة الإسلامية في لبنان.
أين نحن الآن؟ مكان إقامتنا معروف.
أين نحن غداً؟ متفائل بالغد. حاضرنا هذا ليس أبدياً.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى