ساعة في صحبة هيكل حول محفوظ وأم كلثوم.. وعدوية!

حوار مع محمد حسنين هيكل لم يُنشر في حياته، والحوار يدور حول أولاد حارتنا التي نشرها محمد حسنين هيكل حين كان مسؤولاً عن جريدة «الأهرام»، كما يدور حول الموسيقى الكلاسيكية وأقطابها وأم كلثوم وأحمد عدوية. إنه حوار في الأدب والفن ويقترب من السياسة اقترابهما منها.

تمنى الراحل محمد حسنين هيكل أن يصبح بعد تقاعده موظف أرشيف في جزيرة نائية (اختار جزر «البليار» شرقي إسبانيا). ما لم يتوقعه هيكل وهو يخطط للتقاعد، أن خلو البال من المستحيل في مجتمعات كانت، ولا تزال، تحبو بحثاً عن طرق للحرية والديموقراطية.. لهذا وجد نفسه في معارك وحروب وانقلابات وثورات لا تنتهي.. مجتمع على صفيح ساخن دائماً. لم يكن هيكل مجرد صحافي، أو «جورنالجي» كما كان دائماً يصف نفسه.. لم يكن ناقلاً أو مبرراً لخطاب دولة يوليو، بل كان صائغاً لخطابها الإيديولوجي، وفاعلاً فيه. لم يتوقف يوماً عن المشاركة حتى في أوقات ابتعاده عن «السلطة». لقد اقترب أكثر مما ينبغي لصحافي، فاخترق أحياناً، واحترق أحياناً أخرى.. لكنه كان يخرج في كل مرة صامداً، وأقوى مما كان بسلاحه: القلم. عندما أبعده السادات عن الأهرام، توقع الجميع أن يختفي هيكل، لكنه أصبح الأكثر شهرة لأنه انتقل في الوقت المناسب إلى معسكر «خارج السلطة».. بل أصبح هو في حد ذاته سلطة.. سلطة الكاتب!

ولعل القصة الشهيرة توضح ذلك، عندما التقى بالخميني.. غضب السادات وسأل: بأي صفة يلتقي هيكل بالخميني؟ يومها أبلغ هيكل المقربين من السادات: التقيته بصفة الصحافي. هكذا لم يكن انقلاب السادات على هيكل في العام 1974 وإطاحته من الأهرام في أوج النضوج والعطاء نهاية لمسيرة الصحافي.. بل تتحريراً وتكريساً لها، لذلك قال هيكل إنه اعتبر التقاعد الإجباري من مؤسسة «الأهرام» منحة مبكرة عن موعدها من الرئيس السادات.. لا عقاباً: «كنت قد قررت أن أتقاعد من الأهرام في سن الخمسين، لكن الرئيس السادات فضّل أن أتقاعد في الثامنة والأربعين، لهذا أعتبر أنه صاحب فضل كبير، وفر عليَّ عامين لتحقيق خطتي المزمعة، لذلك استثمرت العامين في ترتيب البداية الجديدة، فقد أعطاني السادات فرصاً أفضل لكارير جديد، وكلما استعدت التفكير في ذلك الموضوع كنت اسأل نفسي شاكراً الظروف: ماذا كنت سأفعل لو أنني بقيت في منصبي، حتى عمر الستين أو السبعين سنة مثلاً».

كان هيكل بالفعل أكبر من مجرد صحافي، فهو أحد صناع الدولة المصرية الحديثة، وأحد الذين صاغوا خطابها الحداثي في مواجهة مشروع آخر «إظلامي» يريد أن يعود بالدولة إلى العصور الوسطي.. وربما قبل ذلك، امتد تأثيره من مجال السياسة «ملعبه المفضل» إلى مجالات أكثر اتساعاً، حتى صار محوراً لزمن كامل، وطرفاً في كل أحداثه السياسية والثقافية، بل والفنية أيضاً!

وبالرغم من أن هيكل كان بإمكانه أن يركن إلى ما حققه من شهرة ومجد، يصمت، يستمتع بالحياة، والسفر (ربما إلى جزر لم نسمع بها)، لكنه آثر البقاء في مناطق الصراعات، يتجدد أسلوباً ولغة ومصادر. كان أكثر الصحافيين المصريين دأباً ومثابرة على تتبع الجديد في الصحافة العالمية من أشكال مختلفة.. تجربته في «وجهات نظر» بتعريف الصحافة المصرية بنماذج جديدة من الكتابة مثل المقالة الاستطراديى الطويلة.. وكذلك حرصه على تقديم دعم للصحافة الاستقصائية.. وحرصه على لقاء الشباب قبل الشيوخ والاستماع إليهم.. لا ينقل وصايا أو نصائح، أو توجيهات وإنما دروساً يمررها بذكاء، للأجيال الأحدث: «عليك أن تصنع نموذجك، وتؤكد عليه وتجعله نموذجاً ناجحاً، فلا أحد يستطيع أن يقف أمام الموهبة الحقيقية». وهكذا كان هيكل يحرص على أن يلتقى شباب الصحافيين قبل شيوخهم، يحاورهم ويستمع إليهم.. ويستمعوا إليه!

أولاد حارتنا

التقيت الأستاذ مرات عديدة، بعضها لقاءات عامة بصحبة آخرين، وبعضها منفرداً في مكتبه على نيل القاهرة. كنت قد اتفقت معه على لقاء طويل بعيداً عن السياسة، والصحافة (عن تكوينه الثقافي وأسلوبه، مكتبته، علاقاته بمثقفي عصره) رحّب الأستاذ، وكان اللقاء الأول لترتيب المحاور والاتفاق على التفاصيل. وكان الموعد في صباح قاهري هادئ (25 يناير 2015)، لم تبدأ بعد احتفالات الثورة او حتى احتجاجاتها.. في مكتبه كان يريد معرفة تفاصيل عن الواقع الثقافي.. كيف أراه أنا؟ ابتسمت: جئت لكي استمع إليك يا أستاذ.. لا لأتحدث أنا!

قال مبتسماً: «ياللا شوت».. إسأل إذن، وكانت البداية من «أولاد حارتنا» رواية نجيب محفوظ التي نشرها هيكل في الأهرام عام 1959 على مدى ثلاثة شهور كاملة، يومياً، وتحمل بسببها الكثير من الضغوط.. ولكن في النهاية لم يرضخ هيكل للضغوط التي طالبت بوقف النشر، بل وفر حماية لنجيب محفوظ، ولآخرين ممن استكتبهم للأهرام.

سألت الأستاذ عن التفاصيل. أجاب: وصلت الرواية إلى مدير التحرير على حمدي الجمال، الذي شعر بالقلق، وعطل نشرها من دون أن يخبرني بأمرها، ويبدو أن نجيب اشتكى لحسين فوزي الذي أخبرني بأمر الرواية، وقلت لحسين فوزي: لا نستطيع أن نحجب عملاً لمحفوظ مهما كان ناقداً وحاداً، خاصة أننا جرينا وراه ليكتب في الأهرام ووسطنا توفيق الحكيم أكثر من مرة، ولكن محفوظ طلب الانتظار حتى يحال إلى التقاعد».

يواصل هيكل: «طلبت الجمال ليحضر الرواية على الفور، أخذتها معي إلى المنزل وقررت نشرها يومياً، لا كما كان يحدث من قبل بأن تنشر الأعمال الأدبية أسبوعياً، وهذا القرار اتخذته لسببين الأول أن حجم الرواية كبير. ونشرها أسبوعياً قد يستغرق ما يقرب من عام كامل وهي فترة طويلة قد تتيح لمن يريد أن يحرّض ضد الرواية لأسباب دينية أن يوقف نشرها، وثانياً لأنني أدركت رسالة الرواية وخطورتها».

مر نشر الرواية بهدوء شديد، وحتى الحلقة السابعة عشرة بدأت شكاوى وبلاغات عديدة ضد الرواية وتطلب تحرك الأزهر لوقف النشر، فسأل عبد الناصر هيكل عن الحكاية، وعندما عرف الموضوع قلت له: «هذه رواية كتبها نجيب محفوظ ولا بد من نشرها، حتى آخر كلمة».

هكذا لم يحذف هيكل من الرواية أي حرف، نافياً بذلك ما أوردته الباحثة السويدية مارينا ستاغ في كتابها «حدود حرية التعبير» التي أكدت اعتماداً على مقالة نشرت في مجلة الهلال: أن هيكل طلب من محفوظ ممارسة دور الرقيب على نفسه وحذف فقرات عديدة منها يمكن أن تزيد المحتجين احتجاجاً.

سألت هيكل: هل توقعت أن يتم استغلال الرواية سياسياً أيضاً، وليس دينياً فقط؟ أجاب: كان واضحاً هجوم محفوظ على السلطة، ولكن كان لدي مبدأ واضح في الأهرام أن أي نظام لا بدَّ أن يكون له نقاد، وإذا لم يتحمل النقد يفقد مبرر وجوده كنظام، وأصبح «زنزانة». ثانياً هناك كتاب لا يمكن أن تضع عليهم رقابة أو وصاية حتى من رئيس التحرير نفسه، ومنهم نجيب محفوظ»!

سألت هيكل: هل كان الهجوم على «أولاد حارتنا». مقصوداً به نجيب محفوظ أم محمد حسنين هيكل؟

ابتسم: المقصود به الأهرام، ليس شخصي ولا شخص محفوظ، هناك داخل السلطة من أزعجهم نجاح الأهرام، لم نكن في طوع الاتحاد الاشتراكي، ولا الحكومة، ولم نكن نطلب مساعدات منهم، بل كنا نحقق أرباحاً، ولذلك عندما اشتكى علي صبري من «الأهرام» للرئيس، أجابه عبد الناصر قائلاً: والله، هيكل لم يطلب مني شيئاً على الإطلاق، ولا يوجد مليم واحد دخل الأهرام من الدولة، حتى في الفترة الأولى، على عكس «الجمهورية» التي كانت تطلب دائماً مساعدة الدولة.

قلت لهيكل: إذن لم تكن السلطة الناصرية مجرد جناح واحد منسجم، بل جناحان، أحدهم يميني والآخر يميل إلى اليسار؟

أجاب: «بل عدة أجنحة، لم يكن فقط الاتحاد الاشتراكي ضد «الأهرام»، بل الحكومة أيضاً وأذكر أن سعد زايد محافظ القاهرة وقتها أهان أحد محرري الأهرام في اجتماع عام، فأصدرت قراراً بألا تنشر أي أخبار عنه في الأهرام حتى يعتذر، وقد شكاني لعبد الناصر ولكني صممت على موقفي، حتى اعتذر في النهاية. ومن المفارقات أن الأهرام الذي كنت أترأس تحريره وإدارته، وأنا أقرب الناس لجمال عبد الناصر كان هو الذي تعرض بانتظام لهجوم لم تتعرض له صحيفة أخرى. فقد كان هناك من يتضايق من دور «الأهرام» في ذلك الوقت، ولذلك تقرر اعتقال عدد من محرريه، كل هذا وأنا فيه.. كل هذا وأنا القريب من جمال عبد الناصر».

الموسيقى

الموسيقى، أحد الجوانب الهامة في حياة هيكل، هو مولع بالموسيقى الكلاسيكية. قال: أحد اساتذتي المهمين هو محمود عزمي وزير خارجية مصر، وكانت زوجته سيدة روسية رفيعة الذوق، كنا نذهب عنده كل خميس لنستمع إلى الموسيقى الكلاسيك، ومن هنا كان عشقي للموسيقى.

أسأله عن «الأفضل» بالنسبة له؟

يجيب: حلاوة موزارت، فهو أشبة بطفل لم يكبر بعد، موسيقاه بها براءة طفولة متمردة، يعجبني البناء لدى بيتهوفن، أما هايدين فهو «سيد الكل».

أسأله: هل أثر عشقك للموسيقى على أسلوبك.. في الكتابة وبناء الموضوع، وإيقاع الجملة؟

يجيب: في الثقافة، لا يمكن الحديث بهذا الشكل عن مؤثرات، أنت تهضم كل ما تتعرض له، فيتحول إلى عصارة من القراءات والأشعار والأفلام والموسيقى.. كل هذه الأشياء تؤثر فيك، لكن لا تستطيع أن ترصد هذا التأثير بدقة، لقد تعلمت من هارولد آرول أول رئيس تحرير عملت معه في «الايجيبشيان جازيت» أنك يمكن أن تنسى المعلومات، ولكن أثرها يبقى معك دائماً. ولذا أنا مدين لآرول بالفضل أيضاً في تقليل الاعتماد على الذاكرة حيث نصحني في بداية عملي المهني، أنا ومجموعة من الزملاء: «سوف تذهبون إلى مهام متواصلة تغطون فيها مسارات الحوادث في وطنكم وأوطان أخرى، وعندما تأخذكم المهام التي تُكلفون بها إلى أي مكان، خصوصاً خارج البلاد، فلا تحاولوا أن ترسلوا مواد إخبارية عاجلة؛ لأن وكالات الأنباء سوف تسبقكم، أما ما تستطيعون التفوق به على غيركم فهو التركيز على خلفية الوقائع والحوادث وحركتها الداخلية، مستندين إلى المشاركين فيها وشهودها، راسمين باللون والظل وبالصوت والهمس صوراً حية للأجواء والظروف والملابسات، وعليكم تسجيل ذلك وتثبيته أولاً بأول حتى تستطيعوا في ما بعد عندما تكتبون تقاريركم، أن تستعيدوه على نحو دقيق وأمين. وإذا اعتمدتم على الذاكرة وحدها ومر يوم ثم يوم، فأخشى أن النتيجة تكون أقرب إلى فن القصص منها إلى عرض الخبر».

يبتسم هيكل عندما علقت على كلامه قائلاً: «مرض الصحافة الحالية أنها تقرأ الفنجان، وتحاول قراءة البخت.. لا الاعتماد على معلومات حقيقية»!

برغم السياسة وملاحقة الأخبار، لم تنته علاقة هيكل بالموسيقى.. كان يتابع أولاً بأول، حريصاً على السفر كل عام إلى فيينا للاستماع الى ما يحب في مهرجان الموسيقى الكلاسيكية السنوي، كما كانت علاقاته بالموسيقيين المصريين، لها حكايات وحكايات، تبادل المواقع ذات يوم مع أم كلثوم، حيث عملت معه صحافية وحاورته حواراً شهيراً..استكتبها في الأهرام، وكثيراً ما كتبت افتتاحية الأهرام، يقول هيكل: «عندما كانت تغني أم كلثوم كنت أشعر أن روح مصر كلها تتقمص كيان هذه الفنانة».

يتذكر هيكل: عندما سافرت أم كلثوم لأداء العمرة، سألتها عندما عادت: ماذا قلت وأنت واقفة أمام الروضة الشريفة، (قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم)؟ هل همست في نجواك بإحدى أغنياتك، العابدة الخاشعة، التي تغنينها له وأنت هنا في القاهرة؟

قالت أم كلثوم: أسكت.. لم أستطع أن أفتح فمي بكلمة واحدة.

قلت: أنت! أنت التي تغنين في مدحه وفى سيرته أروع ما قيل في مدحه وفى سيرته من قصائد، كالهمزية النبوية، ونهج البردة، وإلى عرفات الله.

قالت أم كلثوم: نعم.. نعم.. أنا التي أجد نفسى في مدحه وسيرته، هنا من على البعد، مثل «اللبلب» وجدت نفسي في رحاب قبره وليس على لساني كلمة واحدة. وقلت لأم كلثوم ضاحكاً: لم تستطيعي أن تذكري ولا قصيدة واحدة من أغانيك. قالت أم كلثوم ضاحكة: تذكرت أغنية واحدة.. ولكن بعد أن خرجت، الأغنية التي أقول فيها: «ولما أشوفك يروح منى الكلام وأنساه».

من أم كلثوم انتقلنا للحديث عن أحمد عدوية.. يحكي هيكل: ذات مرة، طلب مني أحمد بهاء الدين ألا أنام مبكراً كما اعتدت، وأنه سيمر عليّ لأمر هام.. أنا أحب بهاء، ولا أرفض له طلباً، وبالفعل ذهبت معه إلى أحد فنادق القاهرة الكبرى، وبعد قليل ظهر أحمد عدوية.. وقال بهاء جئت بك لكي تستمع إليه لأنه هو مطرب المرحلة القادمة والتعبير عنها..!

تشعب الحوار عن الأهرام التي أراد هيكل أن تكون: «بؤرة تنوير، كان الدُور السادس فيها أشبه بـ «دوار النجوم». وتحدثنا عن الفن التشكيلي والعولمة، وتوفيق الحكيم.. وأشياء أخرى كثيرة، لم تغب السياسة عنها، واستدعى هيكل من ذاكرته أبيات شعر قالها العقاد في رثاء سعد زغلول في احتفال أقيم في أربعينيته:

أمَضت بعد الرئيس الأربعون/ عجباً كيف إذن تمضي السنون

يضحك الأستاذ: بينما كان العقاد يلقي قصيدته، متسائلاً كيف ستمضي السنون بعد غياب الزعيم سعد؟، فأوقفه كامل الشناوي قائلاً: ستمضي كما مضت الأيام الأربعون!.. وهكذا نحن ستمضي الأيام!!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى