فيينا: الأميركي والروسي ضد السعودي والإيراني!
لولا الاحتكاك السجالي البسيط بين عادل الجبير ومحمد جواد ظريف، لبدا الرجلان ممثلين لبلدين حليفين، أو على الأقل صديقين، في اجتماع فيينا الأخير، للمجموعة الدولية لدعم سوريا. هذا هو الانطباع الذي خرج به أكثر من مشارك في اللقاء الخامس في العاصمة النمساوية في 17 أيار الجاري.
فمنذ الساعات التي سبقت انعقاده، بدا الاجتماع الأخير وكأنه بلا مضمون. قبل ليلة جاء الوفدان الأميركي والروسي بجحافلهما المعززة. اختليا، تشاورا، ووضعا مسودة بيان فضفاضة من أربع صفحات ونصف صفحة. جوهرها الأساسي… لا شيء.
في اليوم التالي بدأ الاجتماع رسمياً. منذ اللحظات الأولى فرض إيقاع واضح: هناك من يقرر وهناك من يستمع. لا بل بدا أكثر أن إضافات عدة زيدت على المجموعة، بهدف تضييع النقاش وتمييع آلية الخروج منه بأي نتائج عملية. صار العدد 25 مشاركاً، مع أكثر من مئة حاضر! الحسناء الإيطالية فيديريكا موغيريني كانت أول من سقط ضحية تلك المناورة العددية. فهي موجودة في فيينا وفي الملف السوري، بصفتها حاملة اللقب الكبير والفخم، الممثلة العليا لسياسة الأمن والشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي! جلست على آخر الطاولة تقريباً، لترى معها نصف دزينة من وزراء الخارجية الأوروبيين. بعضهم اعتادت وجودهم، مثل البريطاني والفرنسي والألماني، لكنها لا بد فوجئت بمواطنها الطلياني، وبالهولندي، وبالإسباني …فضاع دور أوروبا!
يروي المشاركون أنه بعد انطلاق النقاشات، بدأت تتظهر «الصورة السلبية» أكثر فأكثر. الثلاثي الذي يجلس على رأس الطاولة ـــ كيري، لافروف ودي ميستورا ـــ يبدو فريقاً واحداً، رغم تبايناتهم السياسية، وعلى عكس التمايزات المفترضة بين مواقعهم ومواقفهم، فيما المشاركون الباقون كلهم بدوا مدفوعين إلى اصطفافات آنية وغب الطلب، لمواجهة الاحتكار الثلاثي وقيادته. بالتجربة والمحاولة، بدأ يكتشف المتحدثون قوانين اللعبة الجديدة. يخرج التركي بعثمانيته الفظة مهاجماً بشار الأسد، فيسكت نظيره الروسي سكوتاً تاماً، ليأتيه الرد مفاجئاً مباغتاً من حليفه الأميركي. بطاقة صفراء: خرجت عن الموضوع. لسنا ههنا لنبحث مصير الأسد. نحن نبحث الآن في مسائل تقنية أخرى: تفاصيل الهدنة وكيفية دعم عملية وقف العمليات الحربية. يتذمر الميني ـــ إردوغان، يعبّر عن امتعاضه. يحاول الإصرار على فكرته، لكنه مربك محرج، فخصمه على الطاولة لم يعد سوى صديقه. يحاول إعادة استدراج الكلام إلى مصير الأسد. يعاجله كيري ببطاقة ثانية. إذا كان ثمة مصير ما يبحث هنا، فهو مصير مجموعتين اثنتين لا غير: داعش والنصرة. لأنهما إرهابيتان. الباقي، كل الباقي متروك لمناسبات أخرى.
حين صارت لعبة البينغ بونغ النمساوية على هذا النحو، بدا أن الجارين اللدودين، عادل الجبير ومحمد جواد ظريف، أول من فهم القواعد الجديدة المفروضة، فالتزما شبه صمت بليغ. غابت نقاشاتهما الحامية، وافتقد الإماراتي سجالاتهما العاصفة كي يمرر عبرها مكبوتاته. جلس الرجلان، وبينهما للمفارقة المعبرة، جبران باسيل لا غير، يرصدان ما يشبه الاتفاق المكتوم والسري بين حليف كل منهما، فيما هما غائبان عنه جاهلان لتفاصيله، أو حتى على غير علم ولا خبر ولا دراية. ظريف كان أكثر من التقط اتجاه الرياح، فراح يذكر ويكرر أن المطلوب هو تثبيت قواعد الحل السياسي، انطلاقاً من مسلمة ألا حل عسكرياً في سوريا. كأن السعودي كان ينتظر عندها جواباً أميركياً لم يأت. فاضطر في لحظة مرارة وحيدة إلى الاتكال على نفسه للرد. فاكتفى بملاحظة، اعتبرها المشاركون شيئاً بين العبارة الاعتراضية وتمرير مزحة. فقال رداً على ظريف: «بل سيكون هناك حل عسكري. وسنظل نأتي بالسلاح والمال والرجال حتى يتحقق. وستكون أنت في المعسكر الخاسر»! ابتسم ظريف، يؤكد المشاركون. كأنه أدرك أن كلام الجبير موجّه لا إليه، بل إلى كيري. فاستخدم الأسلوب والنبرة نفسيهما، قائلاً: «وسنأتي نحن بالمزيد أيضاً، ولن يكون حل عسكري»! ومرة أخرى، بدت عبارة ظريف موجهة لا إلى خصمه السعودي، بقدر ما كانت رسالة مبطنة بالواسطة إلى حليفه الروسي.
بعدما أفرغ الجميع جعبهم من ذخيرة خلبية أمام الدرع التسووية الأميركية الروسية، أدرك المشاركون عبث المحاولة. فاستدركوا منكفئين إلى محاولة تحسين ما سيكون، بعد اليأس من محاولة تغيير ما كان. فبدأت سلسلة الملاحظات والاقتراحات على مسودة البيان الضخم. ومرة جديدة كان هؤلاء أمام صدمة متكررة: الأميركي والروسي يومئان برأسيهما حيال كل ملاحظة مطروحة. لكن من دون تسجيل أيّ منها خطياً أو فعلياً. كأن ما كتب قد كتب. وكل ما تبقى وقوف على خواطر شفهية… وحدها ملاحظة لبنان، حول إضافة الفقرة القائلة بعودة النازحين، والتي كانت قد اعتمدت في البيانات الختامية السابقة، وأسقطت من بيان 17 أيار، مرّت من دون تحفّظ. فأدرجت في البيان. ربما لأنها باتت من لزوم ما لا يلزم. بعدما أصبح الجميع في أجواء التحضيرات الأممية لإعادة توطين هؤلاء خارج سوريا. طبعاً ببركة أميركية روسية وأممية.
خلاصة فيينا أن واشنطن وموسكو تطبخان، وأن كل من على الطاولة سيكون أمام خيار من اثنين: إما القبول بما سيقدم له، وإما الموت جوعاً، أو حرباً!
صحيفة الأخبار اللبنانية