اللوبي الإسرائيلي يزدهر في قلب أوروبا.. بتمويل أميركي
لم يعد الأمر مجرد ظنون، أو يَرِدُ بسرعة ناجمة عن تهويمات نظرية المؤامرة وكسل الربط بامتدادات المصالح التاريخية. اللوبي الاسرائيلي موجود ومؤثر ويتوسع في بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، بحسب دراسة مفصّلة نشرت مؤخراً حول القضية، لتكون الأولى من نوعها هنا. الصورة الآن باتت واضحة مع بيانات ترصد بدقة حركة التمويل والارتباطات، إضافة لأقنعة التخفي. نطاق العمل يشمل التأثير في صنع القرار لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية مباشرة لمصلحة حكومة الاحتلال، لكن أيضاً مستويات متعددة من الأبعاد، منها مثلاً الضغط المثمر على الأوروبيين لادراج الجناح العسكري لحزب الله كـ «منظمة ارهابية».
الكشف الذي حققته الدراسة، عبر جهد استقصائي وتوثيقي مهم، يتجاوز إثبات وجود وانتشار اللوبي في القلب السياسي لأوروبا. يقول أصحابها إنهم فوجئوا بوجود صلب تمويل هذا اللوبي من الولايات المتحدة الأميركية، ما جعل الاندفاع لتشكيله وتوسيعه يأتي غالباً من هناك من دون أن يكون عملاً أوروبياً داخلياً. المسألة الأخرى التي عرّتها الدراسة هي أن خريطة تمويل هذا اللوبي تجعله مرتبطاً مباشرة بمنظمات شغلها الشاغل نشر «الإسلاموفوبيا»، الأمر الذي يراه بعض المختصين في صلب اهتمام اللوبي الاسرائيلي سواء في أميركا أو أوروبا.
الدراسة نشرت قبل أيام في بروكسل. العاملون عليها هم ثلاثة أكاديميين وباحثين لديهم خبرة معتبرة بالدراسات الاستقصائية من هذا النوع، كما انهم ناشرون لكتب ودراسات سابقة معنية بالصراع العربي ـ الإسرائيلي. الصحافي والناشط السياسي الإيرلندي دافيد كرونن، الذي نشر كتاب «تحالف أوروبا مع اسرائيل: دعم الاحتلال». البروفسور ديفيد ميلر، استاذ العلوم الاجتماعية في جامعة «باث» البريطانية، كما شارك في العام 2004 في إنشاء مجموعة «سبينواشت»، التي تركز تحقيقاتها الاستقصائية لكشف خلفيات مجموعات الضغط وقضايا الفساد السياسي. الباحثة سارة ميروسك، من جامعة جوهانسبورغ، سبق لها العمل مع ميلر على كتاب عن محاولات اسرائيل تضليل الأمم المتحدة وحملتها على «مركز العودة الفلسطيني».
مجموعات اللوبي الاسرائيلي بدأت الانتشار في بروكسل منذ العام 2000، لتتزايد تدريجياً. بحسب الباحثين، هناك أكثر من مئة مؤسسة وجمعية لوبي اسرائيلية في أميركا تموّل مباشرة اللوبي الاسرائيلي في بروكسل، لتضخ ملايين الدولارات لنحو عشر مؤسسات تطفو على سطح هذا العمل التنظيمي وتضعها الدراسة تحت مجهر الاستقصاء.
هناك مؤسسات لوبي في بروكسل اعتبرها الباحثون تشكل «نمواً طبيعياً»، بمعنى امكانية التوقع، للوبي في أميركا. لكن هناك مؤسسات أخرى «لها صلات قوية، تمويلياً وتنظيمياً، بالحركة اليمينية الداعمة لاسرائيل في الولايات المتحدة، والتي تروج نزعات الاسلاموفوبيا ولها شراكة مع عرابي الاستيطان المتطرفين».
خريطة أهداف متشابكة
خريطة هذا اللوبي، كما تكشفها الدراسة، تجعله أشبه بالشبكة المعقدة المتداخلة والمتقاطعة. يقول البروفسور ميلر لـ«السفير» إن «اللوبي الاسرائيلي قائم على ترتيبات معقدة بالنسبة لارتباطاته. فمن جهة، هناك من يعمل مع الحكومة الإسرائيلية، لكن بعض مجموعات اللوبي أكثر تطرفاً ودعماً للاستيطان من الحكومة الاسرائيلية. إنه ليس كمجموعات الضغط الأخرى التي يتم التحكم بها من منصة واحدة، بل هناك حركة من تفرعات مختلفة»، موضحاً أن «هناك مجموعات لوبي صناعية مثلاً، لها هدف محدد وضيق، بينما بالنسبة للوبي الاسرائيلي، فلديه نطاق واسع من القضايا للضغط من أجلها، مثل تشجيع مشاعر العداء للمسلمين ومهاجمة حركة التضامن مع فلسطين، علاوة على تحسين التجارة، لذا هي مجموعات ضغط تقوم بأشياء مختلفة وأحياناً تتقاطع».
على صعيد التأثير بآلية عمل المؤسسات الأوروبية، يطرح الباحثون نموذجاً واضحاً عن نجاح عمل اللوبي الاسرائيلي. إثر العدوان الاسرائيلي على غزة في العام 2009، قام البرلمان الأوروبي بتجميد اتفاقية لدعم المنتجات الصناعية الاسرائيلية. لكن مجموعات الضغط استطاعت تحريك هذا القرار مجدداً، قبل أن يعاد إقراره في العام 2012، رغم بقاء نقاط التحفظ على سياسات اسرائيل تجاه غزة على حالها. نتيجة هذا القرار، على سبيل المثال، تعامل اليوم أي شركة تصنيع أدوية في المستوطنات كما لو أنها شركة أوروبية. يمكنها المرور إلى سوق أوروبا مع اعفاءات ضريبية، كما لا تحتاج التقيّد بمعايير النوعية التي تتطلب مصاريف انتاجية كبيرة.
يقول الباحث دافييد كرونن لـ «السفير» حول هذا النموذج إن مجموعات اللوبي الاسرائيلي «استطاعت اقناع برلمانيين اوروبيين ينتقدون اسرائيل بدعم هذه المبادرة. قالوا لهم: صحيح أن لديكم الحق في القلق من النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية، لكن إيقاف اتفاق تجاري ليس الطريقة الأفضل لتسجيل تحفظاتكم. لقد كان تكتيكاً ذكياً، غير نزيه، لكنه حقق مراده».
نطاق الفوائد التجارية ليس قليلاً أبداً. الاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري لاسرائيل. أحد مراكز ثقل اللوبي الاسرائيلي هو داخل البرلمان الأوروبي، فهذه المؤسسة التشريعية يمكنها تسريع أو إيقاف القرارات المتعلقة بالسوق الأوروبية المشتركة. تلك السوق هي أكبر وأهم سوق في العالم، انتاجها الاجمالي يشكل تقريباً ربع الناتج الاجمالي العالمي.
الباحثون أشاروا إلى أن المعرفة الدقيقة بآلية ومفاصل عملية صنع القرار داخل التكتل الأوروبي لها أهمية استثنائية، قياساً بآليات صنع قرار هي عادة أكثر بساطة في الدول نفسها. يوضح كرونن حول هذه المسألة أن «زيادة مستوى التجارة لم يحصل صدفة، فإسرائيل وداعموها روجوا أفكاراً عديدة ووضعوها على الأجندة، كما درسوا كيفية عمل الاتحاد الاوروبي. نحن لا نقول إنهم يتحكمون بالاتحاد، إنما هم نافذون في قضايا مرتبطة بالشرق الأوسط».
من الأمثلة البارزة على نفوذ اللوبي الاسرائيلي، وفق الدراسة، قضية تصنيف الجناح العسكري لـ «حزب الله». بدأت الحملة فور حدوث تفجير حافلة في منتجع بورغاس في بلغاريا، في تموز 2012. مجموعات اللوبي أمسكت ذلك مروجة لادعاءات تورط «حزب الله»، رغم أن الحكومة البلغارية نفسها كانت حذرة جداً، وبعض وزرائها حذروا من أن خطوات بهذا الحجم تحتاج «أدلّة دامغة».
وجوه اللوبي وأقنعته
لكن مروجي رواية تورط «حزب الله» لم ينتظروا أي تحقيقات. أحد مؤشرات عملهم على القضية ظهر في مقال يحاجج بضرورة «وقوف الاوروبيين إلى جانب صوفيا»، نشره مدير «المؤسسة العابرة للأطلسي»، مقرها بروكسل وهي فرع مباشر لـ «اللجنة الأميركية ـ الاسرائيلية». أخيراً، أثمرت حملة الضغط الشرسة في تصنيف الاوروبيين للجناح العسكري «منظمة ارهابية» بعد عام من وقوع اعتداء بورغاس.
يقول الباحث كونن حول هذه القضية إنه «كان لدى الاتحاد الاوروبي وجهة نظر خاصة، كانوا يقولون نحن لا نحب حزب الله لكنه لاعب مهم في لبنان ونحتاج إلى إبقاء التواصل معه بالنسبة لقضايا مهمة عديدة»، قبل أن يضيف: «لكن تم اقناع الاتحاد الأوروبي بتصنيف الجناح العسكري عبر حملة ضغط اللوبي الاسرائيلي. الجمعية الاميركية اليهودية كانت فعالة ونشطة جداً في هذا الملف (عبر فرعها «المؤسسة العابرة للاطلسي»)، وأعتقد أنها لعبت دوراً مهماً، وأيضا كانت (جمعية) الاصدقاء الاوروبيين لإسرائيل منخرطة في الضغط، حالما وقع التفجير قفزوا على القضية وقالوا هذه فرصتنا لتحقيق شيء أردناه منذ وقت طويل».
الدراسة تكشف تمويل وطبيعة نشاط مؤسسات لا تخفي وجهها الداعم لاسرائيل، متخذة من بروكسل مقراً لها: «المؤسسة العابرة للأطلسي» المرتبطة بواحدة من أهم مؤسسات اللوبي الاسرائيلي في أميركا. «مبادرة أصدقاء اسرائيل»، هي جمعية ناشطة من العيار الثقيل، تكفي الاشارة لمن يقودها وهو رئيس الوزراء الاسباني السابق جوزيه مانويل أزنار. مؤسسات أخرى تنسج على المنوال العلني ذاته، مثل «مؤسسة حلفاء اسرائيل»، «مؤسسة الصحافة الاسرائيلية الأوروبية»، «التحالف الأوروبي لأجل اسرائيل».
هناك أيضاً مؤسسات تعمل تحت عناوين لطيفة، جذابة، ولا تقول شيئاً عن محرك عملها، مثل «شبكة القيادة الأوروبية». لكن أبرز النماذج على هذا العمل «الحربائي» هو «المؤسسة الأوروبية للديموقراطية»، التي لا تعلن عن أي نشاط لمصلحة اسرائيل، في حين تمارس نشاطاً مكثفاً لنشر «الإسلاموفوبيا». أحد نشاطاتها اللافتة، مثلا، دعم «مشروع مكافحة التطرف»، مقره في الولايات المتحدة وأنشأ فرعاً أوروبياً يعمل من بروكسل وبرلين.
أحد العناوين الأساسية التي يروج لها هذا «المشروع» هو عدم تحول الانظار عن «حزب الله» و«حماس». قادة المشروع، بينهم شخصيات أميركية وأوروبية بارزة، شددوا على ضرورة عدم ترك نمو «داعش» يسرق كل الأضواء، مطالبين بالتعامل مع «حزب الله» و «حماس» بالمستوى نفسه لأن «إرهابهما ليس أقل خطورة» كما قال أحد مسؤولي المشروع.
لكل مؤسسة مذكورة خريطة كاملة عن مصادر تمويلها التفصيلي. أهم الممولين في المحصلة، لمجمل هذا النشاط المتشابك، هم أثرياء أميركيون. على القائمة نيوتن أديلسون، المسمى «مليونير الكازينو»، مع ثروة مقدرة بنحو 27 مليار دولار، المعروف بصداقته لبنيامين نتنياهو. يليه نيوتن وروشيل بيكر، وضعهما «مركز التقدم الأميركي» من بين أهم سبعة ممولين لنشر الاسلاموفوبيا. على قائمة التمويل تتوالى أسماء شهيرة في عالم اللوبي الاسرائيلي: روجر هيروغ، لاري هوتبيرغ، بيرنار ماركوس.
هل تحتاج اسرائيل ضغطاً على أوروبا أصلاً؟
السؤال يرد عليه باحثون ومختصون بالقول إن نشوء اسرائيل، منذ البداية، كان جزئياً ثمرة لعملية لوبي طويلة ومتراكمة. على هذا النحو، يتحدثون عن «ازدهار» اللوبي في بروكسل باعتباره مدفوعاً إلى رعاية علاقة ممتازة أصلاً، لأسباب مختلفة، مع استثمارها في كل مجال ممكن لمصلحة سلة أهداف مختلفة.حينما سألنا البروفسور ميلر حول هذه المسألة، قال مباشرة «هذه العلاقة المميزة تم بناؤها جزئيا عبر عملية الضغط، لكن ليس هذا فقط. لا يمكن القول إن دعم أوروبا لحقوق الانسان جرى إفساده عبر اللوبي الاسرائيلي لأن القضية أكثر تعقيداً».
جانب من التعقيد يأتي أيضاً بالنشاط المضاعف لمصلحة نشر «رهاب الاسلام». بالإجمال، هناك محاولات مكثفة لصنع وتكريس وترويج ماركة جديدة هي «الارهاب الاسلامي»، وداعمو اللوبي الاسرائيلي، كما تكشف الدراسة، هم في صلب تلك المساعي.
بعض المختصين يجدون روابط مباشرة. يدير زاهر بيرواي منصة حديثة هي منتدى «يوروبال»، التي تعمل من لندن كمؤسسة داعمة للقضية الفلسطينية. شاركت مؤسسته في دعم الدراسة حول اللوبي الاسرائيلي في أوروبا. من صلب الدراسة ومن عمله يقول إن «اسرائيل تعتبر المسلمين في اوروبا تهديداً استراتيجياً، هذا ما تحدثوا عنه في مؤتمر هريتسليا (الاسرائيلي للأمن) العام الماضي. المسلمون مرتبطون عاطفيا بفلسطين والقدس وهذا ما يجعلهم مؤيدين محتملين، وبما أنهم قاعدة انتخابية في دول ديموقراطية فهذا سيجعل السياسيين يحسبون حسابا لرأيهم».
عمل مجموعات الضغط شرعي تماماً في التكتل الأوروبي، لا غبار عليه قانونياً، لكن هناك سجلا «طوعيا» يقترح على مجموعات الضغط تسجيل موازناتها. هناك دعوات من البرلمان الأوروبي لجعله سجلاً إلزامياً في العام 2017، لكن ذلك لن يعني التصريح عن مصادر التمويل.
وجود اللوبي الفلسطيني، كنشاط وتأثير ذاتي، يمكن إهماله تماماً مقارنة بحجم التمويل الذي يتلقاه اللوبي الاسرائيلي. مثال طرحته الدراسة يشير إلى تكتل جمعيات فلسطينة في بروكسل، كان حجم موازنتها في العام 2012 نحو 11 ألف يورو، عمليا يمكنه أن يكون أقل من تكلفة مؤتمر واحد لجمعيات اللوبي الاسرائيلي. نظراً لوجود «عدم توازن» كبير في هذا المجال، يدعو أصحاب الدراسة الحكومات الأوروبية للتحرك ضد اللوبي الاسرائيلي. المبرر الذي يحملونه يجادل الأوروبيين وفق منطقهم، فهم يقولون يجب إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان، فيقابلهم أصحاب الدراسة بالدعوة «لتحرك صلب من الحكومات الاوروبية ضد الأفراد والمجموعات التي تعمل لاستدامة الاحتلال المتواصل لفلسطين».
صحيفة السفير اللبنانية