منقوع قمر الدين .. وأشجار الغوطة الغالية!
كان ذلك في الليلة الأولى من ليالي رمضان. أيقظتني أمي على السحور ، قالت لي :
ــ قم هيا . بقيت دقائق قليلة قبل أن يبدأ الامساك !
نهضت، فأعطتني صحنا فيه منقوع قمر الدين. قالت لي :
ــ إشرب ما تستطيع، فإنه يفتح الشهية، ثم لعلك تتناول شيئا من الطعام قبل الأذان .
شربت المنقوع، وكانت المرة الأولى التي أتذوق طعمه. شعرت بالانتعاش والسعادة معا..وتمنيت لو أنني شربت هذا المنقوع في أيام الصيف الآفلة .. بعد السحور بساعتين ذهبت إلى المدرسة بعد أن استعدت شيئا من دروسي، وعدت منها، وأنا أفكر بقمر الدين الذي ظلت حلاوته ورطوبته تمدني بالحيوية…
في البيت سألت أمي :
لماذا سمي بقمر الدين ؟ ومن أين يأتون به ؟
ضحكت. وسألتني :
ــ هذا يعني أنك أحببته ؟ وقالت :
ــ اسمع القصة من أولها ..
ثم شرعت تحكي لي، وكان قد بقي لأذان المغرب نحو ساعتين ونصف الساعة. حكت لي أمي عن الغوطة، فهي جنة الدنيا، وماخلا عصر من العصور إلا وحاول الغزاة السيطرة عليها، لنهب خيراتها، كان الغزاة يسلكون كل السبل للوصول إلى بلادنا.. وكانت بلادنا تنجو باستمرار وكانت تعود كما كانت وكان أهلها الطيبون يتغلبون على كل المصاعب ..
تغيرت طبقة صوتها، وأضافت وكأنها تهمس بأذني:
ــ الغوطة مليئة بالأشجار المثمرة.. بالجارنك والمشمش والعوجا والخوخ والجوز، وغيرها من الثمار الطيبة. تذهب إليها فروع نهر بردى، لتغذيها بالماء، وما يفيض منه يشكل بحيرة جميلة اسمها ((العتيبة))، كل ذلك جعل الناس يسمونها: جنة الدنيا .
وعندما وصلت إلى موضوع قمر الدين، قالت أمي :
ــ والمشمش من أطيب ثمار الشام، ينضج في وقت واحد، وخلال فترة قصيرة ينتهي الموسم، لذلك خاف أهل الشام على ضياع مواسم بلادهم، فابتكروا طريقة للحفاظ على المشمش هي صناعة المربى والمجفف و قمر الدين..
وصناعة قمر الدين غدت معروفة في كل البلاد، حيث يجففون خليط المشمش بعد غليه بالسكر، ثم يحولونه إلى عجينة ثم يرققونه و يدهنون صفائحه بالزيت لتبقى طويلا..
كانت هذه حصة شهر رمضان من الغوطة، وكان قمر الدين يعد لهلال رمضان ، وأنت تعرف أن رمضان يأتي وفق حسابات القمر، فسموه هدية رمضان ، ثم صار اسمه قمر الدين نسبة إلى القمر ودين المحبة بين الناس..
مع اقتراب موعد أذان المغرب، تركتني أمي، ونهضت لتعد طعام الافطار..
لحقت بها، وطلبت منها أن نتناول منقوع قمر الدين على الإفطار، فوافقت، واشترطت أن أقوم أنا بتقطيع الرقائق الملفوفة بالجلتين بعد أن أغسل يدي، ففعلت، ووجدتها تضع القطع في الماء وتتركها، ثم، وقبل أذان المغرب شاهدتها تهرع إليها لتحركها فيذوب المنقوع متحولا إلى شراب طيب منعش..
كان ذلك قبل خمسين عاما.. لا يمكن أن أنسى منقوع قمر الدين، ولايمكن أن أنسى أن الغوطة جنة الدنيا، وهناك من يريد أخذ الجنة من السوريين ..
مر زمن طويل على ذلك ، لم أكن أتصور أن تمر كل هذه السنوات، لتسألني ابنتي وأنا أحمل ربطة قمر الدين إلى البيت:
ــ لماذا يسمونه قمر الدين؟ وهل هو طيب ؟
ضحكت، ولم أجبها .. قلت لها :
عندما تعود الغوطة كما كانت أحكي لك عن الدين وقمره !