لبنان وحضوره العربيّ والعالميّ والعربيّ في مانشِسْتر
فضلو الحوراني، الذي أنهى دراسته في الكليّة السّوريّة الإنجيليّة (الجامعة الأميركية اليوم)، ونال شهادة في اللّغة العربيّة وآدابها، هاجر سنة 1891 تاركاً بلدته، وأمّه وأخواته الخمس، وتوجّه بالبحر إلى مدينة مانشِستر في إنكلترا. في هذه المدينة الكبيرة، برز فضلو الحوراني في أعماله، وأصبح من كبار رجال الأعمال والتجارة والمال. لكنّه استمرّ على اتصالٍ بأصدقائه من اللّبنانيّين والسّوريّين، فكان منزله الكبير في مانشِستر محطّ رحال هؤلاء الأصدقاء والأقرباء يمرّون عليه ويمكثون فيه أيّاماً طويلة.
… ومن أصدقائه الأحبّ نذكر أمين كسباني من بلدة كفرشيما، وكان زميله في الكليّة السوريّة الإنجيليّة. ونذكر ممّن تردّد على منزل فضلو الحوراني في مانشِستر سليم بك سلام، والأمير زيد بن الشريف حسين، وزاره أيضاً جمال الحسيني، وغيرهم من الشخصيّات العربيّة والأجنبيّة.
في أثناء الحرب العالميّة الأولى شعر اللبنانيّون وغيرهم من السوريّين في مانشِستر بحرج الموقف، إذ إنّهم في الواقع ينتسبون بأصولهم إلى بلاد الشام أو سوريا التابعة للدولة العثمانيّة التي صارت عدوّاً لإنكلترا . فكّر فضلو الحوراني وصديقه أمين كسباني أنّه يتوجّب عليهما أن يُفسِّرا للمسؤولين وجهة نظرهما وحقيقة علاقة معظم اللبنانيّين والسوريّين في إنكلترا بالدولة العثمانيّة، التي هي مجرّد محتلٍّ مكروهٍ ومستعمِرٍ لبلادهم منذ أربعمئة سنة. توجّه الاثنان إلى الـHome Office وشرحا للمسؤولين وضعهم وحقيقة انتمائهم.
شيكات لجورج بيكو
كلّفت الحكومة البريطانيّة في تلك الأثناء السّير مارك سَيْكِس Sir Mark Sykes بمتابعة أمر هذه الجالية في مانشستر وفي غيرها من المدن، كما كلّفت الحكومة الفرنسيّة جورج بيكو Georges Picot بالمهمّة عينها، وصار هذان السياسيّان على اتّصال بالجالية السّوريّة من وقتٍ إلى آخر. سنة 1915 أسّس فضلو الحوراني وأمين كسباني ’’الجمعيّة السوريّة في مانشِستر‘‘ Manchester Syrian Association، وكان فضلو الحوراني أمين عام هذه الجمعيّة. كان الهدف من تأسيسها العمل من أجل رعاية أبناء الجالية وبناتها، وتقديم المساعدة والمشورة لمَن يطلب. لقد دأب السّير سيْكِس على زيارة الجمعيّة، والتحدّث إلى الرّئيس والأعضاء عن المستجدّات التي تبرز في بلاد الشرق الأوسط. وزارهم أيضاً جورج بيكو سنة 1917، فرحّب فضلو الحوراني به باسم أعضاء الجمعيّة. ثمّ إنّ أمين عام الجمعيّة الحوراني سلّم السيّد سيْكِس شيكًا بمبلغ 300 جينيه استرليني لكي يُرسَل هذا المال إلى الجنرال الّلنبي كمساعدة طبيّة لحملته العسكريّة في فلسطين. وقدّم أيضاً شيكّاً آخر إلى السيّد جورج بيكو بمبلغ عشرة آلاف فرنكٍ فرنسيّ يُقدِّمها باسم الجمعيّة إلى الصليب الأحمر الفرنسيّ. الجدير بالذكر أنّ الجمعيّة اهتمّت، في أثناء الحرب العالميّة الأولى، بجمع التبرّعات من أعضائها ومن رجال الأعمال الكبار في مانشِستر على اختلاف انتماءاتهم الدينيّة، المسيحيّة والإسلامية واليهوديّة.
لكن، ما كان يُطبَخ في الخفاء يختلف عمّا كان يُظهره سيْكس وبيكو من نيّاتٍ حسنة تجاه أعضاء الجمعيّة، وتجاه تحقيق آمالهم باستقلال بلادهم العربيّة ووحدتها. ففي سنة 1916 تمّ اتفاق سرِّيّ بين السّير سيْكِس وجورج بيكو وروسيّا القيصريّة، على اقتسام البلاد العربيّة في ما بينهم في حال انتصارهم في الحرب العالميّة الأولى. عندما زار السّير سيْكس الجمعيّة في مانشِستر في حزيران (يونيو) سنة 1918 قال له فضلو الحوراني مستفسراً: كيف يستطيع السير سيْكِس أن يُوفِّق بين الانطباع الذي كان قد قدّمه لهم بأنّ حكومة صاحبة الجلالة قد دعمت مشروع الدولة العربيّة المتّحدة أو الدولة الكونفدراليّة، وبين ما أُفشِيَ سرّه من قبل الرّوس، عمّا جرى من اتّفاق سرِّيّ يجعل مساحة واسعة من الشرق الأوسط تنقسم بين بريطانيا وفرنسا؟ أجاب السّير سيْكِس بتلعثم وإرباكٍ، أنّه عمل أقصى جهده من أجل تعزيز الموقف تجاه الدولة العربيّة الموحّدة، ولكنّ الضغط الفرنسيّ أصرّ على أن يكون هناك دولتان: سوريا ولبنان فيُصبحا بالتالي أكثر قوّة. (An unfinished Odyssey – Book 2- p17).
مسؤوليّات قوميّة تجاه الثورة العربيّة
في أثناء اللِّقاء عينه، دعا السّير سَيْكِس فضلو الحوراني واثنين من أعضاء الجمعيّة إلى “مكتب الحرب” في لندن للتشاور في أمر ثورة الشريف حسين بن علي على الأتراك، ومدى ما يُمكن أن تقدِّمه الجمعيّة من مساندة. في لندن، وفي أثناء لقاء فضلو الحوراني ورفاقه بالسّير سَيْكس في تمّوز (يوليو) 1918، سلّمه الحوراني كتاباً من الجمعيّة السوريّة وقد أرفقه بمبلغ وقيمته 1500 بَوْند إنكليزي، لكي يُرسله السّير سيكس بدوره إلى الشريف حسين. أمّا ردّ الشريف حسين على الجمعيّة السوريّة فكان:
” أولادي الأعزّاء، أشكركم من أعماق قلبي على هذا العطاء القيِّم والسخيّ، ولكنّني عندما علمتُ بأنّ حاجة شعبكم الملحَّة في سوريا هي أكبر ممّا عليه في بلادي، فقد أرسلتُ المبلغ إلى مَن أثق بهم ليتمّ توزيعه بحسب حاجات بلادكم، ولكنّني قبلتُ 5 في المائة منه احتراماً لرغباتكم”. تأثّر أعضاء الجمعيّة السوريّة كثيراً بمضمون رسالة الشريف حسين، وشعروا بأنّه أصبح يترتّب عليهم مسؤوليّات قوميّة مهمّة للغاية تجاه الثورة العربيّة. وهكذا عملوا على تمتين العلائق مع رجال الثورة وقوّادها، فعندما زار الأمير فيصل بن الشريف حسين لندن في كانون الأوّل (ديسمبر) من عام 1918، قرّرت الجمعيّة السوريّة إرسال وفدٍ إلى لندن للترحيب بالأمير ودعوته لزيارتهم في مانشِستر. وتألّف الوفد من أربعة أعضاء على رأسهم أمين عام الجمعيّة فضلو الحوراني ونائبه أمين كسباني. اجتمع الوفد بالأمير فيصل وتباحثوا معه في مدى ما يمكن للجالية أن تسهم به من أجل مساعدة الثورة العربيّة.
اقتراح باتّحاد فيدرالي
لقد التحق أمين كسباني بحاشية الأمير فيصل في دمشق، ومنها أرسله الأمير إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة، حيث أقام في نيويورك وبرُوكلين من أجل العمل على دعم الثورة العربيّة. وفي أثناء انعقاد مؤتمر السلام في فرساي في فرنسا سنة 1919، دعا المنتصرون في الحرب الأمير فيصل ليُقدِّم آراء العرب ومطالبهم. لقد قام فضلو الحوراني ومعه ثلاثة من أعضاء الجمعيّة من آل كحلة، وشيحا، ودقّي بإرسال رسالة إلى وزير خارجيّة بريطانيا آرثور بلفُور يطلبون منه دعم توجّهات الأمير فيصل بخصوص مستقبل البلاد العربيّة، ويقترحون إنشاء دولة سوريّة كبرى مستقلّة تحت إدارة واحدة، وتكون حدودها: جبال طوروس إلى الجنوب، ونهر الفرات إلى الشرق، وتخوم الجزيرة العربيّة إلى الجنوب الشرقيّ، وسيناء والحجاز إلى الجنوب، وسيناء والبحر الأبيض المتوسِّط إلى الغرب. واقترحوا أيضاً في رسالتهم أن يكون هذا الاستقلال برعاية بريطانيا وفرنسا والولايات المتّحدة. كذلك اقترحوا أن تكون بلاد سوريا الكبرى من ضمن اتّحاد فدراليّ يضمّها إلى جانب بلاد ما بين النهرَين وشبه الجزيرة العربيّة، ويكون هذا الاتّحاد الفدراليّ المركزيّ على نمط ما هو عليه في الولايات المتّحدة الأميركيّة. نذكر أنّه عندما زار الرّئيس الأميركيّ توماس وودرُو وِلسُون مانشِستر عام 1919 التقى به أعضاء الجمعيّة السوريّة، وخاطبه فضلو الحوراني باسم الجمعيّة قائلاً: ’’إذا سُمح لنا الآن أن نعبِّر عن مدى عمق أفكارنا، فإنّنا نطلب بأن يُمارَس تأثيرُ سعادتكم الكبير من أجل مساعدة بلادنا الحبيبة، بحيث إنّها يُمكن أن تنعم بنعمٍ من الحريّة، وأن تصبح جديرة بماضيها المجيد‘‘.
نوري السعيد ورستم حيدر
أمين كسباني، نائب أمين عام الجمعيّة السوريّة، جاء من نيويورك والتحق بوفد الأمير فيصل في مؤتمر السلام في باريس، وكان الوفد يضمّ إلى جانب أمين كسباني شخصيّات عربيّة، نذكر منهم: نوري السعيد من العراق، عوني عبد الهادي من نابلس في فلسطين، رستم حيدر من البقاع في لبنان، وهؤلاء الأربعة كانوا من مستشاري الأمير فيصل الأساسيّين، وهم الذين عملوا على وضع مُسوَّدة خطاب الأمير، الذي توجّه به إلى المؤتمرين في 6 كانون الثاني (يناير) من العام 1919، والذي طالب فيه بحريّة البلاد العربيّة واستقلالها. لم يستطع الأمير فيصل إقناع رؤساء الدول المنتصِرة في الحرب بمطلبه الخاصّ بالوحدة العربيّة، فضاعت آمال فيصل وأنصاره سدىً، لتغرق في بحر المصالح والمقايضات السياسيّة العالميّة. لم يجدوا بديلاً سوى العودة إلى كلمة الشعب العربيّ وقراره وإرادته. فكان المؤتمر السّوري العام الذي أُقيم في مدينة دمشق. والتحق بالملك فيصل في بغداد صديقه المخلص أمين كسباني، الذي عُيِّن المستشار الثاني في الديوان الملكيّ، وبقي في هذا المركز ثمانية أعوام، كذلك كان رستم حيدر اللّبنانيّ البقاعيّ من مستشاري الملك المفضّلين وقد عُيِّن لمرّات عدّة وزيراً للماليّة في الحكومة العراقيّة.
أولاد فضلو الحوراني: جورج وألبرت وسيسيل، على الرّغم من لسانهم الإنكليزيّ، تابعوا مسيرة والدهم وعملوا في سبيل قضايا العرب، وبخاصّة القضيّة الفلسطينيّة. أسهم أبناء فضلو الحوراني بشكل بارز ومستمرّ في نشر الفكر العربيّ على المستوى العالميّ، كما في نشر الثقافة العربيّة والتاريخ اللّبنانيّ السوريّ العربيّ، وشاركوا العرب في همومهم وقضاياهم. وذلك من خلال مؤلّفاتهم القيّمة في هذا المجال، كما من خلال إسهامهم الفعّال عمليّاً في شرح قضايا العرب للعالم عبر المكتب العربيّ في نيويورك وغيره، وذلك في غمرة أزمات العرب الشائكة مع اندلاع الحرب العالميّة الثانية.
*كاتب وأكاديمي لبناني
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)