عودة المقاهي الثقافية

ليس المقهى مجرد مكان تجمع للتسلية والحكي وتناقل الأخبار، فالمقاهي في التاريخ أعمق من هذا، ففيها كانت تقدم الفنون الشعبية والمبارزات الشعرية، وفي مفهوم الثقافة الحديث صارت المقاهي عنوانا للإبداعات والمواهب تنثر على روادها فنونا وآدابا وأفكارا ومذاهب سياسية.

ربما يتحدث كثير من المعاصرين عن ازدهار المقاهي الثقافية في القرن العشرين وبروز نجوم شخصيات شهيرة من خلالها ومن أبرزها الفيشاوي وريش وغيرهما، لكن ما لا يعرفه البعض أننا عرفنا المقاهي في تاريخنا القديم في جلسات الحكاوي على نواصي الطرق، وعرفها العرب في سوق عكاظ الذي كان بوابة للحفاظ على اللغة ومكانا للمبارزة الشعرية، ومنه انتقلت الفكرة إلى مدن أخرى.

حتى في العصور الإسلامية يحكي المؤرخون عن المقاهي وأهم ملامحها النرجيلة “الشيشة” ولم يكن نشاطها تقديم المشروبات فقط بل كانت تقدم فيها السير الشعبية في قالب شعري غنائي يحكي من خلاله الراوي أشهر السير الشعبية والملاحم.

لقد جسد ما نقله لنا التاريخ، قديمه وحديثه، مقهى مصر المحروسة الثقافي الذي أنهى موسمه الثاني مؤخرا في شهر رمضان على مقهى متواضع بشارع خيرت بحي السيدة زينب، بذل فيه مؤسسه الكاتب الصحفي يسري السيد جهدا كبيرا في ظل تجاهل حكومي وعدم وجود ميزانية.

لكن وكما يقولون قيمة العمل في نتائجه، فإن ما يقوم به هذا المقهى من دور يؤكد أن هناك مستقبلا كبيرا ينتظر مفهوم المقاهي الثقافية، فالأسلوب الذي تقوم عليه فكرة هذا المقهى بحي السيدة زينب من مزج السياسة بالثقافة والفنون والموسيقى والغناء، في شكل أشبه بوجبة خفيفة، تجذب اهتمام رواد المقهى من المواطنين وأنظار المارة وأسماع الجيران، لكي يروا ما يقدم وينصتوا بإمعان فيما يقال.

وهو أمر في مجمله يقودنا إلى تصحيح خطأ ما يُشاع بعزوف المصريين عن الثقافة والمعرفة في ظل متطلبات وظروف الحياة القاسية. فهذا الشعب العظيم، بتاريخه وحاضره، يؤكد أنه شغوف نحو مزيد من المعرفة، يملك حبا للفنون والموسيقى وليس منغلقا على ذاته أو متطرفا في سلوكياته وأفكاره.

التجارب الحالية في إعادة الدور التنويري للمقاهي لافتة للأنظار، فهناك مشروع آخر بدا يلوح في محافظات الصعيد في الفترة الأخيرة لدمج الثقافة في المقاهي وتفعيل دورها، وهو ما يتجسد في مشروع “مكتبة المقهي” الذي يتبناه معهد جوته الألماني بالتعاون مع دار صفصافة للنشر، وإن كان يبدو في ظاهره محاولة لإيجاد منافذ بديلة لبيع الكتب إلا أن برنامج المقهى وما يتضمنه من نشاط ثقافي من خلال تنظيم الندوات واللقاءات الفكرية يفتح آفاقا أرحب نحو استعادة دور المقاهي الثقافية في الصعيد.

هذه التجارب الساعية بدأب نحو فتح منافذ تسويقية للمنتج الثقافي، الفني والأدبي والسياسي والاجتماعي، وتناول كل ما يهم المصريين، يتجسد في عودة المقاهي الثقافية. فاستعادة هذا الدور خطوة مهمة للحفاظ على طابع مميز كان يفيض على الكتاب والفنانين بإلهامات ويفتح لهم آفاق معرفية جديدة ومطالعات لأحوال البلاد والعباد. وهي المشروعات التي بدأت تتجسد وتنهض في تلك النماذج الواعدة.

إن الدور كبير على الجهات المعنية بنشر الثقافة – إن كانت تريد تفعيل الدور الثقافي حقا – وعلى أي مسئول يتشدق ليل نهار بمفاهيم نشر التنوير في كل مكان أن يخطو خطوات حقيقية لتفعيل دور المقاهي الثقافية ودعمها، وليس عرقلة نجاحها ووأدها.

نحتاج عمل حقيقي على الأرض لنشر الثقافة وتجديد الخطاب الثقافي من خلال هذه المقاهي فهي نافذة، بل بوابة كبيرة تطل على عقول ووعي المصريين لا يمكن تجاهله. فافتحوا الأبواب والميزانيات والدعم لهذه المشروعات الناجحة الواعدة ولا تتركوها فريسة لجهل المسئولين وضعف الإمكانات.

* محمد مندور ـ كاتب وباحث مصري

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى