الجزائر و «المحور الإيراني»

ليس صحيحاً الافتراض أن التطور المتسارع للعلاقات الجزائرية – الإيرانية، والزيارات المتبادلة بين مسؤولين من البلدين هي مجرد رد فعل جزائري منفعل على التقارب الخليجي- المغربي. كما ينطوي الاعتقاد بأن الجزائر ذاهبة إلى الالتحاق بـ «محور المقاومة» الإيراني على مبالغة منفعلة في وجهة النظر المقابلة، فالعلاقات الجزائرية بكل من إيران ودول الخليج العربية تحكمها تفاصيل وتعقيدات جمّة تحول دون إمكان تسطيحها بهذا الشكل.
يبدو الموقف الجزائري من الحرب في سورية مزعجاً. على الأقل لمن تبقّى من «أصدقاء الشعب السوري». وهو ما أثار تساؤلات حول طبيعة علاقات الجـــزائر بالمحور الإيراني. فالجزائر واحدة من بين دول عربيـــة قليلة تنظــــر إلى إيران باعتبارها قوة استقرار في المنــــطقة. هكذا عبّر مسؤولون جزائريون كبار في مناسبات عدة. وأوضحوا أن الجزائر لا تعارض أن تحظى إيران بدور «ينسجم مع ثقلها الاستراتيجي كدولة تتمتع بخصائص القوة الإقليمية العظمى».
لم تكتف الجزائر بتأييد ما اعتبرته «حق إيران في امتلاك التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية». بل ألقت بثقلها السياسي، وتقدّمت بمبادرات لمساعدة الجمهورية الإسلامية في الوصول إلى هذا «الحق». ورأى البعض بأن الجزائر تحاول من خلال علاقاتها مع إيران أن تخفف من عزلتها في محيطها القريب (المغاربي والمتوسطي)، وأن تتلمّس فرص تحالفات جديدة لمواجهة التحديات الأمنية المتفاقمة على حدودها الشرقية والجنوبية، خصوصاً في ظل الفوضى الليبية وضعف العلاقات مع دول «الاستقرار العربي». وبالطبع، دائماً كانت التناقضات بين الجزائر والمملكة المغربية حاضرة في المشهد. مع أنه لا يمكن اعتبارها العدسة الوحيدة القادرة على توضيح الرؤية.
تبدو حساسية الجزائر تجاه «المشروع الطائفي» الإيراني ضعيفة للغاية. (…) وفي شكل عام، يبدو أن اطلاع المسؤولين الأمنيين والعسكريين في الجزائر على تفاصيل الشأن الأمني في منطقة الخليج يتسم بالسطحية والضعف.
هناك حجم مفرط من الثقة بحصانة الداخل الجزائري تجاه الاختراقات الإيرانية، صحيح أن النخب الإيرانية تنظر بإجلال إلى تاريخ الثورة الجزائرية والدور الذي مارسته الجزائر ضمن منظومة دول عدم الانحياز. وصحيح أيضاً أن طهران تمتدح إصرار الجزائر على «مبدأ الاستقلال» في سياستها الخارجية الذي تمظهرَ -وفق مسؤولين إيرانيين- في عدم اتخاذها مواقف معادية لإيران رغم الضغوط الغربية، خصوصاً في بدايات الثورة، وأثناء الحرب العراقية – الإيرانية. لكنّ هذين التقدير والإعجاب لم يمنعا إيران مطلقاً من التدخل في الشأن الداخلي الجزائري عبر مساندة «جبهة الإنقاذ» في حقبة التسعينات.
التعاون الأمني والعسكري عنوان عريض بين إيران والجزائر. للعسكر ورجال الأمن نفوذ واسع في رسم معالم السياسات الداخلية والخارجية في البلدين، هذا النفوذ تراوح تاريخياً بين التأثير القوي والهيمنة الكاملة. وهناك اعتماد مشترك على البنى التسليحية والهياكل العسكرية الشرقية. ويعمل البلدان بنشاط على الحفاظ على تفوّق عسكري واستراتيجي في محيطهما الإقليمي، وتحتل ميزانيتهما الدفاعية الضخمة الأولوية القصوى على قائمة النفقات الحكومية. وقد شكّل حضور «داعش» و «القاعدة» على مقربة من الحدود الإيرانية والجزائرية أرضية صلبة للتعاون الأمني بين الجانبين، خصوصاً بالنظر إلى الطبيعة السيّالة لعناصر هذه التنظيمات، وهو ما تطلّب تنسيقاً أمنياً متواصلاً بينهما.
وتُظهر المقارنة بين مواقف الطرفين (الإيراني والجزائري) تجاه القضايا الدولية تشابهاً لافتاً، إذ يتجهان عادة إلى إبراز وجهات نظر مُنتقدة للمنظمات الدولية. ويتجاهلان تقاريرها حول قضايا حقوق الإنسان. كما يشجعان جهود القوى المنافسة للولايات المتحدة. ودائماً ما يؤكّد البلدان رفض أشكال التدخل العسكري الأجنبي في شؤون المنطقة. وتُعد الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب الإطار الأبرز لتعاون البلدين مع المجتمع الدولي، فقد أسهمت تجربة البلدين الطويلة مع أشكال متعددة من العزلة على المستويين الإقليمي والدولي في صياغة تصوراتهما حول ضعف جدوى العمل الدولي المشترك. وحتى مشاركتهما في جهود مكافحة الإرهاب، لا تزال تثير شكوك أطراف دولية تجاه دوافعها الحقيقية.
وعلى رغم هذا التقارب السياسي، فالعلاقات الاقتصادية بين الجزائر وإيران متواضعة. التبادل التجاري بين البلدين محدود، لكنه ينمو بوتيرة سريعة. وتتقاسم إيران والجزائر مواقف متطابقة في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، ولدى البلدين وضع مشابه ناتج من التأثير القوي لانخفاض أسعار النفط على الاقتصاد.خريطة المصالح المشتركة والتطورات المتسارعة للعلاقات الإيرانية – الجزائرية مثيرة للقلق، ربما هناك حاجة إلى اعتراضها عربياً، وهو ما يتطلب معالجة المخاوف الجزائرية من تنامي العلاقات الخليجية-المغربية، وتبديد شكوك الجزائر حيال الصراع الطائفي، والتيارات الدينية المتشددة في المنطقة، خصوصاً بالنظر إلى تجربة الجزائر المريرة في الصراع مع التنظيمات الإرهابية في عقد التسعينات.
ولا بد من التنبه إلى أن النجاحات التنموية في دول الخليج العربية تسبب حرجاً للقيادة الجزائرية، فالثروة النفطية الجزائرية لم تُوظّف في بناء نموذج تنموي، ولم تحلّ مشاكل البلاد. كذلك لا بد من تفهّم الحساسية المفرطة التي تُظهرها الجزائر تجاه فكرة زعامة المملكة العربية السعودية للعالم العربي، وتحفُّظ الجزائر عن نفوذ مصر والسعودية في الجامعة العربية. ويمكن تجاوز هذه العقبات بدعوة الجزائر إلى الانخراط أكثر، ولعب أدوار أكبر في الملفات الإقليمية، والموضوعات التي تؤثر على الأمن القومي للدول العربية.
صحيفة الحياة اللندنية