ترييف وتزييف
“لا الريف عندنا ريف ولا المدينة مدينة “، بهذه العبارة المختزلة، وهذه اللكنة التشاؤمية، بدأ أحد الباحثين في علم الاجتماع حديثه في معرض ردّه عن سؤال، عمّا إذا كان للثقافة القروية أو الحضرية، دور في رفد ظاهرة التطرف بالعالم العربي، وأضاف بأنّ فعل ترييف المدن و”تمدين” الأرياف، جعل من الصعب الحسم في الموضوع، وإبداء الرأي الواضح والصريح في اتهام الريف أو المدينة بتغذية التطرف، لما في الأمر من تداخل والتباس، لكنّ بإمكاننا رصد ظاهرة التطرف، انطلاقا من مفاتيح معرفية عامة في علم النفس الاجتماعي.
الريفي يهاجر إلى المدينة في عالمنا العربي، ولا يحمل معه حقيبته وطموحاته فحسب، بل ما خفي من أنماط تفكير وسلوك، تظهر عند أول تصادم واحتكاك مع ذهنية المجموعة القاطنة في تلك التجمعات الحضرية التي قصدها، وإن كانت الغايات والدوافع التي جاءت بهذه التجمعات البشرية إلى المدن، لا تختلف كثيرا عن بعضها ولا تتباين.
الدكتور مازن عطية، وهو أكاديمي وباحث اجتماعي سعودي، أوضح أن هناك أسبابا طاردة في الأرياف وأخرى جاذبة في المدن، تقع خلف ستار الهجرة، مستعرضا العوامل الجاذبة في المدن بالقول إن «المحفزات الاقتصادية، وفرص العمل التي تحسن دخل المهاجر، إلى جانب الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية، ووسائل الترفيه والحياة العصرية، تصنف كعوامل جاذبة لغالبية المهاجرين، فيما يفتقدها سكان الأرياف”.
أسباب هجرة الريف العربي إلى المدينة، لا تخفى على أحد، وهي متعلقة بالمسألة التنموية بدرجة أولى، ففي غياب أية مساعي حكومية حثيثة لتنمية الريف وتأمين الخدمات فيه، كي يكون مقراً للسكن، وتخصيص المدن للعمل فقط، إلى جانب العقلية السائدة في مجتمعاتنا والتي ترفض فكرة السكن بعيداً عن مكان العمل، وتفضّل شراء منزل في قلب المدينة لتجاوز مشكلة البعد في المسافة.
كل هذا يتم في الوقت الذي يفضّل فيه مواطنو الدول المتقدمة السكن في الريف الذي يتمتّع بخدمات تضاهي المدينة، إلى جانب انخفاض معدلات التلوث والبعد عن الضجيج والازدحام، وتتقبّل شعوب هذه الدول فكرة قطع مسافات طويلة بالسيارة أو باستخدام وسائل النقل العامة للوصول إلى أماكن العمل التي تختص بها المدن.
هذا الحرمان الذي عانى منه الريفي في البلاد العربية قبل وصوله إلى المدينة، سوف ينعكس ـ وبلا شك ـ على سلوكه وردّات فعله إزاء قضايا كثيرة كشكل من أشكال الانتقام، أو حتى كآلية دفاع، علما أنّ الحرمان الذي كان يعاني منه ريفيون كثيرون، اختاروا الاستقرار في مراكز المدن، لم يتبدّل كثيرا إلاّ في بعض مظاهر الاستهلاك، هذا إذا لم نقل إنّ الأمر قد زاد بؤسا واغترابا، لكنّ العودة إلى الريف تصبح شبه مستحيلة، وعندئذ تتمّ هذه “العودة” عبر مجموعة سلوكيات وأنماط تفكير، فيما يشبه ردّة الفعل. العلاقة بين ترييف المدن العربية والتطرف، تتأتى عبر عدة نواحٍ متداخلة، أهمها الثقافية وأزمة الهوية والمستوى الاقتصادي، فترييف المدن يصاحبه نزوع إلى ثقافة تقليدية محلية متشددة وغير منفتحة، تؤدي إلى تهميش أو تراجع الدور المدني التحديثي والتنويري والإبداعي، والثانية هي أزمة البحث عن الهوية واغتراب قيم الريف والبداوة عن القيم المدينية، كما أن الهجرة الكثيفة إلى المدن شكّلت ما يسمى بأحزمة البؤس التي تطوّق المدن والمراكز الحضرية في كثير من المجتمعات العربية، وهذه الأحزمة تتصف بتردي الأوضاع الاقتصادية والخدمات الصحية والبلدية والتعليمية، وخلقت فوارق اجتماعية كبيرة بين القطاعات الريفية والحضرية داخل المدن، وما يتبع ذلك من اضطرابات اجتماعية ذات الطابع الانتقامي والتصرف العصابي، الذي يسهل تشخيصه لدى المتخصصين.
ظاهرة التطرف تجد طريقها إلى المدن والأرياف على حد سواء، ولكن بأساليب مختلفة من حيث الحجم والتمظهر ودرجة الخطورة، ذلك أنّ أسبابها تكاد تكون واحدة، على اعتبار التداخل الهائل بين الريف والمدينة في العالم العربي.