روسيا من فوضى يلتسين إلى بوتين وديموقراطيته الموجهة (مصطفى اللباد)


مصطفى اللباد

صدر مؤخرا في القاهرة، عن «دار العين» للنشر، كتاب «التحول الديموقراطي في روسيا من يلتسين إلى بوتين ـ التجربة والدروس في ضوء الربيع العربي» للدكتور هاني شادي، الباحث المصري المقيم في موسكو منذ العام 1985. يقع الكتاب في مئتين وسبع وأربعين صفحة، تمر بالقارئ عبر عشرين عاما تقريبا، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، لنتعرف من خلالها بسلاسة وإحكام على كيفية انتقال روسيا من «الشمولية السوفياتية» إلى نموذج «الديموقراطية الموجهة» القائم حاليا. ومن خلال فصوله الأربعة الغنية والممتعة، يتناول المؤلف في الفصل الأول المعنون بـ«التحول الديموقراطي في الفضاء السوفياتي» مفهوم «الديموقراطية الموجهة» وعملية التحول الديموقراطي في روسيا في إطار نظريات الانتقال إلى الديموقراطية. كما يُلقي نظرة عامة على التحول الديموقراطي في الجمهوريات السوفياتية السابقة والنتائج التي تمخضت عنه.
يتطرق المؤلف في الفصل الثاني «يلتسين والديموقراطية» إلى الخطوات، التي أقدم عليها الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين لغرس بذور نموذج «الديموقراطية الموجهة». فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كان أول ما أعلنه يلتسين هو العمل على إعادة روسيا إلى «الحضارة العالمية والانتقال إلى اقتصاد السوق وبناء دولة ديموقراطية على غرار النموذج الغربي». ولكن يلتسين اتجه نحو «الديموقراطية الموجهة» وبناء نظام سياسي يتضمن، إلى جانب السمات الإجرائية للديموقراطية، سمات الحكم شبه الفردي. وبعبارة أخرى تأسيس نظام «هجين» يجمع بين عناصر من الديموقراطية الإجرائية والحكم الشخصي للحاشية المقربة من رأس الدولة، وذلك في ظل دعم من الدول الغربية «الديموقراطيات العريقة»؛ التي تخوفت من عودة الشيوعية في تلك الفترة المبكرة من التحولات في روسيا. اتبع يلتسين أثناء هذا التحول نحو «الديموقراطية الموجهة» خطوات معينة في مقدمتها التخلص من البرلمان وقصفه بالدبابات، ووضع دستور جديد يمنحه صلاحيات كبيرة وواسعة في مواجهة السلطة التشريعية، وإجراء انتخابات رئاسية في 1996 امتزج فيها المال السياسي بالسلطة والتزوير، من أجل الاستمرار في الحكم لولاية ثانية. وبعد ذلك قام يلتسين بنقل السلطة الرئاسية إلى «الوريث» فلاديمير بوتين من أجل الحفاظ على النظام الذي أسسه.
لعب يلتسين وفريقه من أنصار «الليبرالية الجديدة» دورا كبيرا في عزوف المواطنين الروس عن التمسك بالقيم الديموقراطية بسبب إصلاحات السوق الراديكالية والنتائج السلبية التي تمخضت عنها. اعتمدت هذه الإصلاحات على مبدأ «السوق قادرة على حل جميع المشاكل وبناء الديموقراطية»، وانتهت بأزمة سياسية واقتصادية جعلت الروس يهللون للزعيم الجديد، صاحب القبضة القوية، فلاديمير بوتين.
يكشف المؤلف في فصله الثالث «صعود بوتين وترسيخ الديموقراطية الموجهة»، عن الخطوات والآليات التي اتبعها فلاديمير بوتين لترسيخ نموذج «الديموقراطية الموجهة» في روسيا على مدار السنوات الأخيرة؛ ذلك النموذج الذي لا يفترض «تداول السلطة» عبر انتخابات نزيهة وشفافة بين القوى السياسية المختلفة في المجتمع الروسي، وإنما يؤسس «تبادل السلطة»، خاصة الرئاسية، داخل المجموعة الضيقة التي تسيطر على الحكم في روسيا. ونتيجة لذلك لم تصل المعارضة السياسية إلى السلطة في روسيا حتى وقتنا الحاضر، كما حدث في بلدان شرق ووسط أوروبا، على سبيل المثال. جاء فلاديمير بوتين ليعمل بقوة على ترسيخ «الديموقراطية الموجهة» وتقوية سلطته الشخصية من خلال تقوية السلطة المركزية في مواجهة الأطراف المكونة للاتحاد الفيدرالي الروسي، ومن خلال إخضاع طواغيت المال (الأوليغاركيا) ووسائل الإعلام، والسيطرة القصوى أو شبه القصوى على النظامين الانتخابي والحزبي، وتوريث السلطة الرئاسية مرة ثانية لأحد المقربين منه (دميتري ميدفيديف)، الذي تعهد بإرجاعها بعد ولاية واحدة إلى «زعيم الأمة». وبالفعل بعد مرور ولاية رئاسية واحدة (2008 ـ 2012)، أعلن ميدفيديف بنفسه ترشيح بوتين للرئاسة من جديد.
يرصد الكتاب أيضاً دور أسعار النفط والغاز المرتفعة عالمياً، في إحداث نمو اقتصادي غير مسبوق في تاريخ روسيا، ما ساعد بوتين على ترسيخ نموذجه وتقوية سلطته الشخصية. غير أن هذا النموذج بات يعاني اليوم من مأزق كبير، يتناوله المؤلف في الفصل الرابع والأخير من الكتاب تحت عنوان: «مستقبل الديموقراطية الموجهة في روسيا». هنا، يتعرض المؤلف لعودة بوتين إلى الكرملين من جديد في مرآة «الربيع العربي»، ويربط بين نموذج «الديموقراطية الموجهة» القائم في روسيا وموقف الكرملين «المتحفظ والحذر» من الانتفاضات الشعبية في بعض البلدان العربية. ويتطرق أيضا إلى السيناريوهات المختلفة والمحتملة، المطروحة في الساحة الروسية والمتعلقة بمستقبل النظام السياسي الروسي.
في هذا السياق، يتناول المؤلف في الفصل الرابع آراء العديد من الباحثين الروس، الذين يعتقدون أن أزمة نظام «الديموقراطية الموجهة» في روسيا «حتمية»، ويعتبرون أن السيناريو الأمثل هو إحداث «ثورة من أعلى»، على غرار ما جرى مع ميخائيل غورباتشوف في نهاية عهد الاتحاد السوفياتي السابق، وذلك عن طريق التفكيك الواعي والمنظم للنظام القائم والانتقال إلى الديموقراطية الحقيقية. أما السيناريو الثاني، فيتعلق بمرور روسيا بدورة جديدة من حكم بوتين تعتمد بشكل أساسي على تراث يوري أندروبوف، الذي تولى رئاسة الــ «كي جي بي» لفترة طويلة، وتولى قيادة الاتحاد السوفياتي في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين لمدة خمسة عشر شهرا. ومن المعروف أن بوتين لا يخفي إعجابه بيوري أندروبوف. شرع أندروبوف في ثمانينيات القرن الماضي في تنفيذ مجموعة من الإصلاحات الإدارية والاقتصادية من «أعلى» دون المساس بالنظام السياسي السوفياتي، حيث تركزت إصلاحاته أساساً على محاربة الفساد والتأكيد على ضرورة السيطرة بقوة على النظام السياسي، وقيادة الدولة للاقتصاد عبر دور أساسي لجهاز الـ«كي جي بي».
إن عودة بوتين إلى الكرملين مجددا في 2012، والاحتمال الكبير لاستمراره في الرئاسة حتى العام 2024، أديا إلى ظهور سيناريو آخر يتعلق باحتمال إصابة روسيا بنوع من «الركود» على غرار فترة حكم ليونيد بريجنيف للاتحاد السوفياتي. ويستند هذا السيناريو إلى أن استمرار بوتين في الحكم لفترة جديدة طويلة قد يزيد من ميل النخبة الحاكمة نحو النزعة «المحافظة» لإيمانها بأنها لن تُزاح عن السلطة، بفضل استمرار ووجود زعيمها على الدوام. وإذا استمر بوتين في الحكم حتى عام 2024، سيكون بذلك قد حكم روسيا كرئيس لمدة عشرين عاما، وإذا أضفنا الأعوام الأربعة التي تولى فيها رئاسة الوزراء (2008 ـ 2012)، سيكون قد حكم روسيا لمدة أربعة وعشرين عاماً. وهي مدة أقل قليلا من مدة حكم ستالين (ثلاثون عاما)، وأطول من مدة حكم بريجنيف (ثمانية عشر عاما).
ومن السيناريوهات الأخرى، التي تُطرح في الكتاب، سيناريو «الربيع الروسي» على غرار «الربيع العربي». ويستند هذا السيناريو إلى تكهن البعض باستمرار الاحتجاجات الشعبية السلمية مستقبلا، للمطالبة بانتخابات شفافة ونزيهة والانتقال إلى ديموقراطية حقيقية لتداول السلطة، ونظام عادل لتوزيع الدخول والثروات ومكافحة الفساد. ويرى مؤلف الكتاب أنه من الصعوبة بمكان التكهن اليوم بمستقبل الحركة الاحتجاجية الشعبية في روسيا خاصة بعد تراجعها في الفترة الأخيرة، لأسباب كثيرة منها تشرذم هذه الحركة وضعفها الحالي، واستمرار تمتع بوتين بتأييد مجموعات غير قليلة من الأنصار وأصحاب المصالح. وفي مواجهة السيناريوهات المشار إليها، يتعرض المؤلف في كتابه القيم إلى آراء المدافعين عن نظام بوتين (نظام الديموقراطية الموجهة)، الذين يعتقدون أن بوتين بعد عودته من جديد إلى الكرملين سيجري إصلاحات سياسية واقتصادية هامة تخلص روسيا من الفساد وتحقق الديموقراطية والعدالة الاجتماعية.
ومن خلال دراسة تجربة «التحول الديموقراطي من يلتسين إلى بوتين» في روسيا، والانتقال من «الشمولية السوفياتيــة» إلى نمــوذج «الديموقراطية الموجــهــة»، يرى المؤلف في خاتمة الكتاب أن ما جرى في روسيا يمكن أن يتكرر مستقبلا في دول أخرى. ويطرح هاني شادي تصوراً يقضي بضرورة تطوير منظومة «رباعية الأبعاد» تتضمن الديموقراطية المباشرة، والديموقراطية الاجتماعية، والديموقراطية الاقتصادية، والديموقراطية الدستورية الحديثة، بشرط عدم الانزلاق إلى نموذج «الديموقراطية الموجهة»، أو الانتقال إلى نظام «تسلطي جديد».
يجسد هذا الكتاب دراسة موضوعيــة وتحليلية جادة، معتمدة على ما يزيد عن مئة وأربعين مرجعا، وعلى الكثير من البيانات والمعطيات والأحداث، التي عايشها المؤلف بنفسه من خلال إقامته في روسيا منذ ربع قرن. يعد الكتاب، جهداً كبيراً وإضافة فريدة من نوعها للقارئ العربي والمكتبة العربية، التي تعاني نقصا شديدا في مثل هذه الدراسات البحثية الجادة والمتخصصة.


صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى