الطيب أردوغان والصديق بوتين
منذ أعوامٍ والرئيس التركي رجب طيب أردوغان يحاول أن يخلق لنفسه مساحة لحركته في الشرق الأوسط، لا تندرج بالضرورة في إطار ما تمليه أجندة حليفه الأكبر في واشنطن، أو تلك الخاصة بسائر دول الغرب التي يطمح لأن يؤسس شراكة معها. سعى إلى ذلك طبعاً من دون أن يفضّ علاقة بلاده العسكرية بـ «الناتو» ولا أن يئد تطلعاتها إلى ولوج الاتحاد الأوروبي. وقد تلقفت موسكو محاولاته «الاستقلالية» تلك منذ بداياتها، فجرّبت أن تجعل من مساحة حركته تقاطعاً يؤسّس لمشتركات ثابتة بين الجانبين. البارحة، حين صافح الرئيس التركي نظيره الروسي بعد قطيعة لأشهر، إنما كان يُعيد الأمور إلى سياقها الأصلي ذاك، الذي ما زال الملف السوري يمثل فجوة فيه.. إلى حين.
ليس سراً أن تركيا في مقاربة موسكو الاستراتيجية تشكل عقدة ربط تتيح لها تأمين بديلٍ لمرور غازها نحو أوروبا، وبالتالي عنصراً مساعداً على تأديب أوكرانيا وإخافة سائر الدول «المتمرّدة» المجاورة، بمثل ما تشكل خاصرة لـ «أوراسيا»، أي الفضاء الحيوي الروسي الذي يشكّله معظم الاتحاد السوفياتي السابق في مخيلة بوتين، علماً أن تركيا ترتبط بشعوب آسيا الوسطى في هذا الفضاء بمشتركات إثنية ودينية حاضرة، وأخرى تاريخية تحفّز على تخيّل مستقبل مختلف، أي إسلامي مُقلق.
وليس مجهولاً في المقابل أن روسيا في عقل أردوغان هي الباحة الواسعة التي يمكن أن يلجأ إليها كلما أظهر العالم الغربي تعاملاً فوقياً مع الأتراك وأبرز قدرته على الإمساك بخيوط اللعبة معهم وتقرير قوانينها. وآخر ما استفز أردوغان بوضوح في هذا الإطار تمثّل بتذبذب موقف واشنطن حيال المحاولة الانقلابية الأخيرة وتمسّكها باستضافة غريمه الإسلامي المتهم بالوقوف خلفها فتح الله غولين، علماً أن موسكو بادرت إلى رفض المحاولة رأساً، وهو ما تقصّد الرئيس الروسي التذكير به بالأمس أثناء مؤتمره الصحافي المُشترك مع أردوغان. بوتين، بذلك، فضلاً عن حيازته ثقة غريمه التركي لعدم قدرته على التأثير داخل بلاده، هو الفزاعة بوجه الغرب التي لا يُجيد أردوغان أن يتقمّصها تماماً، لتواضع وزن بلاده قياساً بالجار الروسي، ولحداثة ارتباك علاقتها بهذا الغرب مقارنة بمن يحمل ثأراً تاريخياً ممن قزّمه من معسكر كوني إلى لاعب إقليمي قبل عقدين. وهو أبرز أدوات الابتزاز التي يحتاج إليها أردوغان في مواجهة حلفائه التقليديين، إن أراد أن يحفظ لنفسه هوامش للعب.
في المحادثات بين أردوغان، الذي كان «طيّباً» في نظر معسكر بأسره في المنطقة قبل أن تتغير المواقف ومعها الصفات، وبين بوتين الذي عاد «صديقاً» وفق توصيف أردوغان، بعد أشهر من نكد بعض الإسلاميين في طول المنطقة وعرضها لناحية التذكير بمآثرهم في أفغانستان، يعنينا الحدث السوري أوّلاً. أردوغان رفع سقفه إلى الحد الأقصى في حواره مع «لو موند» قبيل المحادثات بتمسكه برحيل الأسد وصياغة مستقبل للبلاد تأخذ معاييره بالاعتبار بشكل كبير. في المقابل، ينتظر أن يقوم بوتين باستدراج عروض منه في الاجتماعات المُغلقة مع قادة الأجهزة الأمنية في البلدين، لكنه سيكون حريصاً على تذكيره بأنه لم يذهب إلى سوريا حتى يناقش أنداداً، بل ليفرض الإيقاع وشروط اللعب. على هذا فالوصول إلى نقطة توازن بين الجانبين يحتاج لمنازلات أطول، خصوصاً أن لاعبين كُثر في الميدان غير حاضرين في سان بطرسبورغ، على ضفتي النزاع أو ضفافه.
صحيفة السفير اللبنانية